نعايش الآن حالة ينقضي فيها الزمن البيولوجي المتاح لصاحب مفتاح الدار للقابض على حفنة تراب الوطن المثقل بالذكريات والأحلام الواعدة بالعودة.... للمشاهد المشارك والشاهد لنكبته، لنكبة شعبه التي فاقت حدود الزمن، لهذا اللاجئ بجوار الوطن خلف جدرانه، لهذا اللاجئ الضحية، الفلسطيني الطيب طيبة طيب الوطن، الصابر صبر بلاده. نعايش الآن فترة يذهب فيها هؤلاء الأحبة الذين حرمنا رؤية محياهم كما حُرموا هم، مُنع التواصل المباشر وانبعث الخيال ليمد جسور التلاقي عبر خيال الافتراض.
يذهب هؤلاء الأحبة ذهابا تتابعياً تراجيدياً محتقنا بحسرة خانقة لأمل لم يتحقق، لعودة لم تتم. إنها حالة تتجلى فيها المأساة الفلسطينية بخصوصياتها الفريدة المطوّلة عنوة وقهرا، النازفة للحالم وحلمه، الموجعة للحلم وحالمة، حالة تنتصب هناك حيث نصبت خيمته الأولى .. والأخيرة!! ، علها تصبح شاهدا تثير حنين العودة مجددا لوارثي الحلم... وهل تورث الأحلام؟؟؟....حتماً تتوارث وتتوالد .
يذهب هؤلاء الأحبة موتا لا ينتظر، ويحتضر من تبقى في هامش الانتظار نحو موت لا يتأنى، بل يتأتى مثقلا متعبا كحالة اللاجئ قبيل الرحيل الأخير، كحالة ذاكرته المعتقة المثقلة المتعبة الجوالة في غياهب ومعالم الأشياء التي كانت في الأمس عامرة، هذا الأمس الرابض على صورته الأخيرة قبيل النكبة الجاثم في مخيلة من أصابتهم هزة النكبة، الأمس الثابت الجامد الذي لا يبدي حراكا زمنيا مكانيا، بل نُحت في زمكانه الثابت مولدا ذاكرة استحوذت خلايا الدماغ كلها، ذاكرة وسعها الوطن وجميع مكوناته الحية وغيرها، اختزلت في مستقرها في الدماغ الفلسطيني.
عقم اللقاء بين الشق المهجر في وطنه والشق اللاجئ في بلاد العرب أوطاني!!، صبَّ أوجاعاً فوق أوجاع المأساة الفلسطينية وفجّر لوعة ما بعدها لوعة، وحنينا عصّي الوصف والرصد ما أبدع في خلق أشكال تَخاطب تتلاقى فيها روائ الأحبة والأماني وملامح الوطن وأحباؤه، تزدحم الأحلام باللقاءات ويتراجع الواقع مشاهدا وشاهدا لحالة إبداعية بديلة له، وتصبح الحياة هنا في شقنا وهناك في شقهم حلما واقعياً وواقعاً حالماً، تداخلاً مبهراً لا ينفك فيه الحلم عن الواقع كصقل بلورة واحدة، ترى المخيم بناس منصوبا فينا كما نرى الوطن قابعا فيهم، هم لاجئون فينا ونحن مهجرون فيهم.
عرجتُ بأحلامي الحدود وجاورت المخيم، صمتٌ هامد على المخيم، حراك بطيء تناجيه آهات خافتة تخاطب سكون الليل الرتيب، تخالطه جلبة الحنين وبريق العيون الساهرة.
لمحت دمعة دفؤها جذبني وبهرني وميضها، تابعت انسيابها على أخدود الخد حتى استقرت في قسطل ماء صفورية. عدت الى هنا لامستها ثم عدت الى هناك لامستها انها هي ، هي... قطرة دمع تكورت في بؤرة ذكرى حالمة تشع من ذاك العبث بعثا جديدا يفض فضاء المخيم المزدحم بالذكريات الحالمة بالعودة الموعودة ويرتقي بأحماله ويهبط بها على أديم الوطن، على ماء القسطل وعلى أحجار القلعة الناطرة، ثم يرتقي بأطياب الوطن وأعباقه هابطا مخيلة المخيم، ثم جيئة وروحة، وروحة وجيئة وربما عودة، انه سفر الأحلام في مساره الفلسطيني المؤقت الممتد الى حين... الى حين يقتنص أرقاعاً من المستقبل، يمتد الماضي بماضيه ويمضي الى مستقبل غامض انها حالة يلتهم الماضي الفلسطيني مستقبله ويصبح ماضيا دؤوباً ينوء بأعباء وآلام النكبة التي انفلقت وأفلقت مُصابيها وما زالت.
نعايش الآن مرحلة يذهب فيها هؤلاء الأحبة وتذهب ذكرياتهم الحالمة ويبقى الغضب، الغضب...وتبقى الارادة الانسانية لعودة الأهل .. عودة أصحاب الأرض والديار .. وهو المشهد الآتي!....
صفورية - الناصرة
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com