من يقرأ للروائية ليلى الأطرش لا يمكنه أن يقاوم نصِّها الادبي الممتع والحسّاس، والثري بالمفردات والرسائل والمواقف، وقد طالعت حتى الآن روايتين للكاتبة الأولى بعنوان "مرافئ الوهم" والثانية حملت عنوان "أبناء الريح"، وما أن باشرت في مطالعة هذه الرواية - أبناء الريح (الصادرة عن الأهليّة للنشر والتوزيع، عمان)- حتى اشددت لها بكل جوارحي، فهي رواية تُقرأ بتأني ويبطء وتحثّك على التأمل، لما تحمله من مضمون اجتماعي وإنساني وحتى سياسي، وتفتح ثغرة واسعة في جدار اللامبالاة تجاه إحدى القضايا الاجتماعية المهمة، فهذه الرواية تُعالج قضية أطفال الملاجئ ودور الرعاية وهي قضية قلّما يجري الاهتمام بها، ويندر أن تحظى بالاهتمام السياسي والإعلامي والمجتمعي، وهنا تكمن أهمية الأدب في فضح المستور وكشف النقاب عن العديد من القضايا المضمرة بقصدٍ أو بغير قصد.
فهذه الفئة من الأطفال الذين نبذهم أهلهم وأقاربهم وحتى مجتمعهم، جارت عليهم أقدارهم ووجدوا أنفسهم يعيشون في هذه الملاجئ وكأنهم وُلدوا من العدم، ويبقوا يدورون داخل هذه الأمكنة في دائرة الأسئلة المفرغة، وحالما يغادرون المكان يظل ماضيهم يطاردهم ، ويجعل مستقبلهم غامضًا، وفي مهب الريح وكأنهم نباتات هشَّة وبلا جذور.
تُعالج الرواية قضية الطفولة البائسة في هذه الملاجئ، وتُسلّط الضوء على عدد من الجرائم والأسباب التي أفضت إلى إلقائهم في مثل هذه الأمكنة، كالفقر واليتم وجرائم الشرف والحمل خارج إطار الزواج، ليجري وضعهم كلّهم في سلّة واحدة ووصفهم جميعًا بأنهم "أولاد حرام"، كما وتبرز الرسالة صورًا من الظلم الاجتماعي والجرائم التي تُرتكب، ويجري تغليفها بستار كثيف من الصمت والتكتّم وفي المحصّلة تكون الطفولة البائسة هي الضحيّة.
إن ليلى الأطرش وهي تفتح هذا الجرح الإنساني، فإنها تُصوّب أنظارنا نحو إحدى المآسي التي لا يلتفت إليها المجتمع أو يتجاهلها، ويتواطأ الجميع على نبذها، ومواصلة التعاطي معها بعد مغادرتها دور الرعاية، بصورة تنم عن احتقار وتفتقد لأي تسامح.
هذه الفئة من الأطفال تتفتح أعينها ووعيها على واقع غريب داخل الملجأ، يظل يقبع في ذاكرتها البعيدة صورًا قديمة للأب والأم والأسرة، فينشغل الفضول والحنين، ويبدأون في إدراك ما يجري حولهم، ليعرفوا في نهاية المطاف أنهم أطفال جرى التخلّي عنهم وقذفهم في ملاجئ تحاصر طفولتهم وتطمس إنسانيتهم، يجري امتهان كرامتهم واستغلالهم بشتى الصور المفزعة، فتترسّب في أعماقهم مشاعر الحزن والانكسار لينشئوا أطفالًا مشوّهين يلاحقهم عار آبائهم وأمهاتهم وعلى لسان أحد الأطفال "أدركنا صغارًا شتائمهم لأمهاتٍ خلّفتنا"، فتبدأ الحيرة والأسئلة لديهم حول بعض الشتائم التي يقذفون بها داخل الملجأ او خارجه (أولاد الحرام، أمهاتهم فاجرات، آباؤهم مجرمون...إلخ) فيضيقون ذرعًا بهذه الشتائم الغامضة ويتساءلون عن سبب اختلافهم عن الآخرين "نضيق بأسئلة اختلافنا) فتغدو أرواحهم هائمة لا تهدأ كلّما واجهوا شتيمة أو عبارة تنتقص من إنسانيتهم أو تشعرهم بالعار (لعنوا أبناء أولاد الحرام الذين لا يثمر فيهم أي معروف) وعندما يعثرون على من يعطف عليهم (تخرج من صقيع روحك بلمسة حنان حرّمته عليك أقدارك) وهو ما يُعيد إليهم القليل من التوازن.
ولكن ماذا تتعلم هذه الطفولة المحاصرة داخل الملاجئ ؟ (تتعلم في ملاجئ الأيتام كيف تعلّق أسئلة الحيرة في زاوية ذهنك) كما أنها تتعلم في الملاجئ دهاء الحياة، إذ تضعك هذه الأمكنة في مواجهة الحقائق الصادمة (ومرغمًا تعتاد ما يفرضه الآخرون عليك، اسمك، عائلتك، بيتك، إخوانك، ومستقبلك) ومع كل الطمس القسري لوجودك الإنساني، تتحفّز لديك الأسئلة البديهية التي تُولد في ذهن أي إنسان عن أصله وكيفيّة مجيئه إلى الدنيا، ليكتشف الأمومة التي تتقمّصها إحدى العاملات في الملجأ (سألنا أمنا: لماذا لنا أسماء آباء مختلفين ونحن أخوة، قالت أمر الله؛ وهي إجابة تنطوي على المزيد من الأسئلة، وتبدأ عملية البحث عن الجذور (أنني وأخوتي ولدنا جميعًا في سنة واحدة أصغر أو أكبر بشهور قليلة) فتبدو الإجابات أمام الأم مجرد كذبات بيضاء بعد أن تتبدّل الأمهات داخل الملجأ، يلمس الأطفال الفارق بين أمٍ وأخرى، الحنونة، القاسية، حادّة المزاج، سليطة اللسان، ليكتشفوا مع الوقت أن ثمة حقيقة أخرى وأن ثمة أم أخرى لكل واحدٍ منهم (أمٌ حملت بك بعلًا في أرضٍ لم تعرف خصوبة دفء أو حنان ثم ألقت بك في أرضٍ جدباء لتكبر بلا جذورٍ أو أمل)، أما الأقسى في هذه المحنة قدر هذه الطفولة حين تصغي لشتيمة قاسية (ابن الحرام يظل ابن حرام)، لتلجأ هذه الطفولة البائسة لكسر خزانة الملفات الخاصة بهم لإشباع ظمأ فضولهم، فيطلقون على أسرارهم ويقرروا الهرب إلى الخارج، يكتشفوا أن المجتمع ينبذهم ويستغلّهم، ويبخل عليهم بالعطف والرحمة، فيعودون إلى جحيم الملجأ.
حالما يكبر الأطفال ويصلون إلى حدود الشباب يغادرون هذه الأمكنة لتبدأ رحلتهم في الحياة، يسعون بحثًا عن خيط يوصلهم إلى الأهل والأقارب، لكنهم يبقون مطبقين على سر حياتهم في الملاجئ، ينكرون أنهم عاشوا فيها (تبرأت من دار سترت يتمي) ولأن المجتمع يفتقد للتسامح، وتبقى ذات النظرة الدونيّة لهذه الفئة، يظل الخوف (من أن ينكشف سرّنا فتنقلب أيامنا كابوسًا) غير أن بعضهم لا ينجح في حجب السر عن الآخرين، (قدرنا أن نصادق الزوايا ونحتمي في الجدران) وفي النهاية يتناثر أطفال الملاجئ في الريح، فماضيهم يطارد حاضرهم، ويلقي بظلال سوداء على مستقبلهم.
لقد أحسنت الكاتبة في رسم لوحة فسيفسائية لأبطال الرواية، سلّحتهم بالأنفة والكبرياء، والظمأ لإنسانية متخيلة، لا يلطّخها عار الملاجئ وخطايا الآباء والأمهات.
إن ليلى الأطرش روائية جريئة، لا تجامل، ولا تبتذل مثل هذه القضية، بنشوان الإحساس والرأفة والتعاطف، ففي كل كلمة وخزة دبوس، وفي كل صفحة تطلق سهمًا على التجاهل واللامبالاة، تنتقد المجتمعات وتتّهمها بالتواطؤ وحتى النفاق وتدعوها لأن تتخلص من برودتها، تهذب مفرداتها تجاه مثل هذه الفئات، وتشجب التسامح الزائف الذي يستر عورات المجتمعات.
في هذه الرواية تمسك ليلى بمشرط جارح، وتضج به الدمامل والجروح الاجتماعية المتعفنة، لكنها لا تبقي هذه الجراح عرضة للريح بل تسعى لتنظيفها وتعقيمها وإعادة تقطيبها، تؤلمنا في نضوجها، وتضعنا أمام الحقائق العارية، لنقف في مرآة ذواتنا ونرى صورتنا الحقيقية، هل نحن حقًا مجتمعات متسامحة ومتراحمة؟
من الجيد أن الروائية لم تنزلق إلى مربّع الإثارة الفجّة وهي تفضح أسرار المجتمع، لكنها أبقت الباب مواربًا أمام القارئ كي يتخيل الحقائق والصور اللفظية للجرائم التي ينجم عنها قذف هؤلاء الأطفال إلى الملاجئ وأيضًا تهيل ما يجري داخل هذه الأمكنة.
لقد أثبتت ليلى الأطرش في رواية أبناء الريح، أن بمقدور الأب أن يطرق أبواب التجاهل، ويدق أجراسًا في صمت اللامبالاة وأنه يتعيّن على الرواية العربية أن تبقى ملتزمة بالقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية وألا يجري ابتذالها بالتقليد والإثارة الرخيصة والبحث عن الشهرة والمال.
الاسير الكاتب كميل ابو حنيش
سجن ريمون الصحراوي