تُظهر الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة تلوّن العالم وتعاطفه المتحيّز، وفق ما تُظهره حادثة قتل الشاب الأمريكي من أصول أفريقية جورج فلويد. مقارنة قتل الأمريكي فلويد بما تقوم به السلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين تبدو مهمة في هذه المرحلة، خصوصا مع قتل الاحتلال الإسرائيلي للشاب المقدسي إياد الحلاق، الذي يعاني من مرض التوحّد، وكذلك قتل أمن مستشفى تل هشومير في تل أبيب الشاب مصطفى يونس قبل أيام؛ لجريمة ليست سوى أنهم عرب فلسطينيون.
لا شك أن الفارق كذلك مهم، فجريمة قتل فلويد الأمريكي تأتي في سياق العنصرية وسعي الأمريكان من أصول أفريقية لتحصيل حقوقهم كجزء من الشعب الأمريكي (أو الأمة الأمريكية كما تحب أمريكا تسمية شعبها)، فيما قتل الفلسطيني جريمة مضاعفة فهي قتل المُحتل لشعب يسعى لحرية وطنه!
تُظهر الإحصائيات أنه بين السنوات 2013 إلى 2019 قتلت الشرطة الأمريكية نحو 7666 شخصا، وكانت حصة السود 2.5 ضعف البيض من حصيلة القتلى، مع العلم أن السود يشكلون 13 في المئة من مجمل الشعب الأمريكي.
في المقابل ووفقا لإحصائية منظمة بتسيلم الإسرائيلية، فإنه في ذات السنوات قتلت القوات الإسرائيلية بالرصاص في منطقة الضفة الغربية لوحدها 380 فلسطينيا (وقبلها بسنوات وخلال الانتفاضات قتلت أضعاف ذلك).
فإذا كانت نسبة القتلى 2.3 لكل 100000 في الولايات المتحدة (0.23 لكل 10000) فإنها في الضفة الغربية 1.4 لكل 10000، بمعنى نسبة القتل الذي يقوم به الاحتلال الإسرائيلي هي أكثر بستة أضعاف من القتل الذي تقوم به السلطات الأمريكية، والنسبة أكثر من ذلك بكثير إذا ما احتسبنا القتل الذي قامت به القوات الإسرائيلية في غزة. ففي الفترة ذاتها قتلت القوات الإسرائيلية 2627 فلسطينيا، بنسبة 14.5 لكل 10000 فلسطيني، أي أكثر بـ63 ضعفا مما تقوم به السلطات الأمريكية! فيما منذ عام 2000 قتلت الشرطة الإسرائيلية أكثر من 57 مواطنا عربيا من فلسطيني 48، من الذين يملكون "المواطنة الإسرائيلية"!
وعليه فإن قتل القوات الإسرائيلية للفلسطينيين أضعاف كثيرة مما يقوم به الأمريكان تجاه السود (مجددا مع الفرق). والفلسطينيون يعانون من تمييز وعنصرية واحتلال أكثر بدرجات من ذاك التمييز الذي تنتهجه السلطات الأمريكية تجاه السود هناك، مع أن هذا التمييز جر العالم لتغطية هذه الأحداث والتعاطف مع هذا النضال في مقابل تجاهل للفلسطيني الذي يُقتل بشكل دائم!
في هذا المقاربة بين القتل على يد الأمريكي الأبيض مقابل القتل على يد الإسرائيلي المُحتل، يمكن التركيز على ثلاثة قضايا مركزية:
1- "الشأن الحقوقي مقابل الشأن التحرري": نضال السود في أمريكا تجاه منظومة التمييز السلطوية وخصوصا الشرطية، تأتي في سياق حقوقي محلي، يسعى من خلاله أصحاب البلاد التغيير في منظومة السلطة في بلدهم ويسعون لتحقيق حقوقهم الدستورية ضمن تمييز لا يقره أي قانون. في المقابل، فإن نضال الفلسطينيين هو نضال تحرري لشعب مُحتل يسعى لتحرره وبناء دولته، وبالتالي قضيته تتجاوز البعد المحلي للبعد الدولي وتحقيق العدالة لشعب يملك حقه في تقرير مصيره، ولكنه يجابه بقوة الحديد والنار (وبتغاض بل ودعم دولي للاحتلال)، وأي ثورة أو رفض لهذا الظلم الإسرائيلي يسمى إرهابا، فيما نضال الأمريكي الأسود من أجل حقوقه يحصل على التعاطف (وبحق)، ولكن في ازدواجية معايير واضحة تعاني منها البشرية جمعاء!
2- "تصوير الفلسطيني كمجرم": في خضم مقارنة الحالة الأمريكية مع حالة الفلسطينيين في الداخل، فإن السود في أمريكا، وهم مواطنون، يعانون من تمييز، وهناك نوع من العنصرية التي تتواجد في عدد من الشعوب، وهي مرفوضة بكل حال، فيما الفلسطيني لا يعاني من تمييز نسبي، بل يُصوّر كمجرم وإرهابي، وهذا ما نجحت بتسويقه منظومة الإعلام الإسرائيلية وتبعتها عدد من وسائل الإعلام الأمريكية، ويتم التشكيك بأي خطوة يقوم بها، فيقتل مرتين، مرة بتهمة الإرهاب ومرة بالقتل الفعلي. فالعالم يصوّر أو يصوّر له بأن الفلسطيني ونضاله بأنه إرهاب وأن الفلسطينيين مستحقين للقتل!
3- " الشعوب ليست سواء": التمييز بين نضالات الشعوب هو فعل شنيع ينُم عن اختلال في موازين القيم، فيما نُشير إلى اختلاف مميزات النضالات، ولكن مع اختلافها مع كل نضال مشروع لسعي الناس للحرية والعدالة والكرامة، إن كان ذلك في أمريكا، أو روسيا، أو الصين، أو سوريا، أو السعودية، أو في سياق تحرر الشعب الفلسطيني من احتلاله. أمّا التمييز بين نضالات الشعوب فهو فعل يدل تغليب المصالح والمنافع الضيقة على المفاهيم والقيم الواسعة التي تتسع للجميع.
أخيرا، فإن حادثة مقتل الشاب الأمريكي ونضال السود في أمريكا، في مقابل نضال الشعب الفلسطيني من أجل حريته ووطنه، نضالان يخرجان من مشكاة واحدة في باب القيم (وإن اختلف اتجاه لهيبها)، وهي مشكاة عيش الناس في كرامة وحرية وعدل، مع ما يضاعف أهمية قضية؛ من حجم القتل والظلم الكبير الذي يعانيه الناس. وما دامت قيادات العالم تكيل بمكيالين فإنها ستذوق من نفس الكأس التي يذوقها هذا الشعب.
وبالتالي، نحن بحاجة لتعاطف عالمي، إن لم يكن على مستوى الحكومات فعلى مستوى الشعوب، للخروج من قيود الظلم الذي يجتاح العالم في أمريكا وفلسطين وكل العالم، وإلّا فسنصل لمرحلة من التصارع الداخلي تجعل الإنسان عدوا لأخيه!
ومع كل البعد القيمي الذي يُشير إليه هذا المقال في مقاربة ما حدث في أمريكا ويقوم به الاحتلال الإسرائيلي، لا يمكن إغفال البعد الديني والوطني لقضية فلسطين، فضلا عن كونها قضية قيمية وإنسانية من الدرجة الأولى. والأبعاد الدينية والوطنية متقاطعة مع الأبعاد الإنسانية والقيمية لمعاني الحرية والكرامة والعدل!