بسم الله نحمده حمداً يوازي نعمه ويدفع نقمته ويكافئ مزيده ونصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمه للعالمين.
من المُعضلات الكثيرة والمتعددة التي يُعاني منها المجتمع العربي هي ظاهرة العُنف، التي تجبي الأرواح، وقد رمى كل من المختصين أسباب الظاهرة سارداً طُرق معالجَتها، الا ان ناقوس الخطر وتفاقُم الظاهرة يزداد يوماً بعد يوم.
في هذه المقالة سوف نخوض في الجانب الجغرافي لهذه الظاهرة، اعتقاداً ان احدى أسبابها هو الانتقال من بيئة القرية التقليدية التي عهدها المجتمع حتى سنوات السبعينات من القرن الماضي وتحوله لمجتمع مدني يفتقر التعقيم والأساليب التي تواقي من مغبة سلبياته.
المبنى القروي:
تمركزت معظم القرى العربية على قمم الجبال/ التلال وذلك من اجل توفير الامن والتماسك الاجتماعي، واستغال الأراضي السهلية للزراعة (التي كانت مصدر الفلاح في تلك الحقبة التاريخية)، لهذا نجد ان معظم القرى العربية قاطنة على قمم التلال او سفوح جبلية، وقد عهد المبنى القروي في الماضي على البناء التقليدي الذي يعتمد على المواد المتوفرة في المحيط، فقد اعتمد سكان مُحيط طبريا على صخور البازلت المُتوفرة بالحيّز، واعتمد سكان الجليّل على الصخور الرسوبية والجير، اما سكان الساحل فقد عانوا من قله الصخور واعتمد معظمهم على الكلس الهش، لهذا اهتموا ببناء الخُشش وقاموا بترميمها كل سنة، وفي ظل انعدام توفر المياه والكهرباء (حتى الخمسينات والستينات من القرن الماضي) كان على افراد العائلة الواحدة الاهتمام بتوفير الماء من عين البلدة، وبديلاً للكهرباء اقتناء الكاز لإشعال القناديل او تجميع الحطب لتزويد الفرن في الحوش من اجل تحضير الطعام، اما بالنسبة للاقتصاد، فقد كان القطاع الاقتصادي الأول المتمثل بالزارعة المُحتكر على مجالات العمل القروي، الذي يحتاج الى ايدي عاملة.
التماسك الاجتماعي:
وفق لما ذكر أعلاه فان مبنى القرية العربية؛ من حيث الموقع، بناء البيت، العمل الزراعي، مشقة العمل، احتاج لأيدي عاملة من اجل مساندة العائلة الواحدة، لهذا اهتم رب العائلة بتوزيع المهام بين الأبناء من حيث؛ تجميع الحطب، رعاية الدواب، احضار الماء من العين، المساعدة في زراعة الأرض وقطف الثمار والمحصول، ترميم البيت التقليدي الذي تعرض للتلف كل عام، مساعدة الام في مستلزمات البيت، هذه الأمور اوجدت طابع التماسك الاسري بين افراد العائلة من خلال النقاط التالية:
أ- اللغة المشتركة بين الاب والابناء: العمل المشترك بين افراد العائلة والانصياع لأوامر الاب منح العائلة صفة التماسك الاجتماعي، فاليوم هنالك العديد من الأبناء لا ينصاعون لأوامر اباءهم ويعيشون بعالم مختلف الذي يصبو نحو تبني العنف بأنواعه المختلفة.
ب- استغلال الوقت: العمل الملقاة على عاتق الأولاد، بالإضافة الى التعليم المدرسي يجعلهم مشغولون طيلة الوقت وليس لديهم وقت الفراغ المولد لظاهرة العُنف، فقد اجمع علماء الاجتماع ان احدى مسببات العُنف هو وقت الفراغ المتراكم الذي يسحب الى حيّز عنيف يشعُر به الفرد بإكمال نفسه.
ت- الانتماء للحيّز: العمل والمساعدة بإعالة الاسرة يزرع الانتماء لدى الأولاد ويُحملهم مسؤولية ونضوج تمنعهم من الانجرار وراء سفاهة الأمور والتخبط بين مطرقة العنف وسدان الجريمة.
المجتمع المدني والتمزق الاجتماعي:
في ظل التطورات التي شهدتها القرية العربية من حيث الحيَز العمراني؛ بناء بيوت من الاسمنت، توفر المياه بكل بيت، شبكة كهرباء ومواصلات متوفرة لكل بيت، الانتقال من الاقتصاد الزراعي للاقتصاد الصناعي والخدمات، جعل بعض الأُسر العربية مفككة تفتقد الى تماسك اجتماعي، فقد الاب توزيع المهام التي مُنحت له في القرية التقليدية نتيجة توفر الاحتياجات في العصر المدني، تفرق العمل الاسري، كل فرد من افراد العائلة يعمل بمجال يختلف، ازدادت ساعات الفراغ لدى الجيل الصاعد مما جعلهم يمكثون وقتاً كثيراً مع الجهاز الخلوي والتصفح في صفحات التواصل الاجتماعي التي لم نعُد نحصيها (فيس بوك، واتس اب، تويتر وهنالك وسائل أخرى لم أتمكن من التعرف عليها حتى كتابة هذه الاسطر)، كل هذه التغيرات مهدت الطريق الى العُنف.
لكيلا يفهمنا أحد خطأ، نحن ليس ممن يتنقد الانفتاح والتحضر والانخراط تحت مظلة المجتمع المدني، بل العكس نحن مع مواكبة العصر والتقدم من اجل الإلحاق بسفينة الازدهار والمضي نحو الامام، الا انه علينا الانخراط بشكل يمكننا من كسب المعرفة وحفظ عاداتنا التي تنفي العنف.
للختام:
العنف هي ظاهرة اجتماعية، أي ان معالجتها ملقاه على عاتق المجتمع بالأساس، لهذا علينا كمجتمع التكاتف من اجل الوقوف امام هذه الظاهرة التي لا تفرق بين دين، عرق، كبير وصغير، علينا مواكبة التحضر مع الالتزام بعاداتنا وتقاليدنا؛ احترام الكبير، استغلال الوقت بأمور تفيد حضارتنا؛ كقراءة الكتب، تعلم مهنة، تطوير مهارة، تجول بربوع البلاد، مد يد العون.
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات.