لم أكن محتاجاً لتعبئة طلب انتساب وموافقة هيئة ما، شخص أو جماعة، كي أكون مسلماً فأنا مسلم بالولادة، والمسلم المؤمن يرى في ذلك نعمة ويشكر الخالق تعالى عليها.
كان والداي، رحمهما الله، يؤدّيان أركان الإسلام الخمسة، يصليان الصّلوات الخمس بأوقاتها، ويصومان رمضان، وحجّا البيت الحرام، وكانّا يتصدّقان على الفقراء إذا وجدا في البيت ما يزيد عن حاجاتنا الضّروريّة، وكانا يخشعان وهما يستمعان إلى الشّيخ عبد الباسط عبد الصّمد وبخاصّة في تلاوة قصار السّور، وكانا يحبّان الغناء والموسيقى والدّبكة وصف السّحجة. كان والدي يحب سماع وديع الصّافي وصباح وسميرة توفيق وبعض أغاني عبد الوهاب ويصرّ على أن يشاهد ندوة الزّجل اللبناني في التلفزيون ويحفظ شطرات من أقوال أبي عليّ والزّغلول، وكان يحرص على مشاهدة المسلسلات السّوريّة والبدويّة وكنت أرى الفرح في عينينه العسليتين وهو يسمع الموسيقى والغناء أو عندما يشاهد البرامج الفنية الشّعبيّة، وأمّا أمّي فكانت تردد "كل من على دينه الله يعينه!"
كان المسجد الوحيد يومئذ في القرية بناءً متواضعاً مفروشاً بالحصر لا بالسّجاد. وكان فضاء المسجد خالياً من السّياسة ومن الأحزاب ومن الحركات. لا خليفة ولا أمير ولا داعية. لا حركة شرقيّة ولا حركة غربيّة. لا صناديق ولا أموال. لا ريالات ولا دولارات ولا دنانير والنّاس سواسية مثل أسنان المشط الجديد. لا أحد يكفّر أحداً ولا أحد يقيّد أحداً.
كانت اللحية الوحيدة في البلدة هي لحية الإمام. لحية ليست طويلة ولا قصيرة فخير الأمور الوسط. لحية شعرها أبيض وفيها بضع شعرات سوداء كأنّهن محميّة طبيعيّة.
ذات يوم سمع والدي شاباًّ ملتحياً يقول: التلفزيون حرام إنه فسدزيون، فصرخ: "منين أجونا هاذول؟" وحينما سمع إماماً شابّاً يعظ الرّجال والنّساء، ويحرم الرّقص والغناء، قال بأسى: " بدهم ينشفوا عيشتنا! ".
عندما رحل والدي إلى الدّار الآخرة كان في بلدتنا ثلاثة مساجد فخمة مفروشة بالسجاد العجميّ وسقوفها مزدانة بالثريّات البلوريّة. غادر والدي الحياة الدّنيا وهو يرى بيوت الله صارت مراكز للحركات الدينيّة وجمع أموال الزكاة وصرفها.
ينسب البعض إلى الكاتب الفرنسيّ المعروف أندريه مارلو قوله: " إن القرن الواحد والعشرين سيكون دينياً أو لن يكون ".
وأظن أنّ الكلمات "أو لن يكون" تعني أنّ البشريّة لن تتمكّن من الاهتداء إلى الطّريق الصّحيح في زمن العجل الذّهبيّ والحياة العصريّة بدون بوصلة روحيّة فالبشر يمكن أن يضلّوا الطريق بدون الدين ولكنّهم يمكن أن يضلّوا الطريق بواسطة الدّين أيضاً، وهذا حدث مراراً في العصور السابقة، ويمكن أن يعاني النّاس أو بعضهم من غياب الدّين كما حدث في بعض الدول في القرن العشرين، ويمكن أن يعانوا من الحضور المفرط للدّين كما يحدث في بعض البلدان. الدّين راسخ في الشعوب ولا يستطيع أحد ما، رئيس أو ملك أو جنرال أو مفكّر أن يخرجه من الحيّ أو يحيله إلى متحف التاريخ، ولكن الدّول المتطورة اقتصاديّاً وثقافيّاً هي الدول التي نجحت في فصل الدين عن الدولة وعن السّياسة. وأعتقد أنّ ماركس الملحد لم يكتب من منطلق السّخرية أو الاستهزاء أو التّحقير للدّين جملته الشهيرة: "الدّين هو تنهيدة المخلوق المظلوم. قلب عالم بلا قلب. روح عالم بلا روح".
كان دين النّاس كما فهمه والداي، رحمهما الله، يعمر بالتسامح وبالمحبة وبالبساطة.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com