تمر المنطقة العربية على نحو غير مسبوق بموجة تطبيع ثالثة وعلاقات سلمية مع دولة الاحتلال "اسرائيل". حدثت الموجة الاولى بعد توقيع اتفاق السلام بين مصر واسرائيل عام 1979، وحدثت الموجة الثانية بعد توقيع اتفاقات السلام بين الاردن ومنظمة التحرير عقب اتفاق أوسلو عام 1993، وتحدث الموجة الثالثة الان عندما وقعت كل من الامارات العربية والبحرين اتفاقات تطبيع كاملة مع اسرائيل في واشنطن الشهر الماضي، وتسارعت خطوات التطبيع في شتى الميادين بين الدول الثلاث. ولاحقا، توسطت الولايات المتحدة لاجراء مفاوضات بين لبنان واسرائيل من أجل ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين تجرى رحاها الان. ويتوقع ترامب أن تقدم خمس أو ست دول عربية على عقد اتفاقات سلام مع اسرائيل.ومنها عمان والسودان. وبرغم أن العربية السعودية أهم الدول الاقليمية في المنطقة، فانها قد أعلنت انها ليست في عجلة من أمرها من ابرام اتفاق سلام مع اسرائيل، وبررت موقفها هذا بسبب انتظار نتائج الانتخابات الامريكية، والتي من المتوقع أن يفوز بها بايدن ان لم تحصل مفاجئات، الا أن السعودية لها علاقات دافئة مع اسرائيل، ولم تخفي السعودية مؤخرا مطالبها للفلسطينيين لدفعهم للتفاوض مع اسرائيل في اطار صفقة القرن، وهو الامر الذي تضمنه حديث الامير بندر بن سلطان في هجوم غير مسبوق على القيادة الفلسطينية. وربما يتعدى تأثير هذه الموجة من السلام الى اوسع من السلام مع "اسرائيل"، فالتقارب الخليجي القطري اصبح أكثر احتمالا، وهذا ما صرح به البارحة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان بن عبد الله. كذلك الامر بالنسبة للعلاقات السعودية العراقية التي تعززت بالزيارات الرسمية والبيانات غير العدائية بين الجانبين. بالضرورة، فنحن في المنطقة العربية أمام موجة ثالثة من السلام تشابه تلك الموجات من الديمقراطية التي تحدث عنها هانتنجتون في كتابه "الموجة الثالثة من الديمقراطية في أواخر القرن العشرين". وفي الواقع، فان التشابه بين موجات السلام وموجات الديمقراطية ليس فقط في تحول الدول بشكل جماعي ومتسلسل الى "السلام" أو "الديمقراطية" تماما مثلما تخبربنا به نظرية "الدومينو" في العلاقات الدولية، وانما يكمن التشابه أيضا في ما يمكن أن يخبئه المستقبل القريب من حدوث انتكاسة حقيقية في المنطقة، ومن ثم التحول الى علاقات أشد تطرفا بين الاطراف ذات العلاقة، وهي في هذه الحالة بين الدول العربية واسرائيل، تماما كما حدث ويحدث الان بعد انتهاء موجات الديمقراطية من انتكاسات وعودة الى الدكتاتوريات العنيفة كما مرت به العديد من البلدان العربية والاقريقية.
هنالك عدة سمات للموجة الثالثة للتطبيع في المنطقة؛ أولها أنها متنوعة الاشكال، حيث اتخذت شكل التطبيع الكامل بين الامارات والبحرين واسرائيل، وشكل التسويات الفنية كما يحدث مع لبنان في مفاوضات ترسيم الحدود، وشكل السلام الامني كما يحدث بين اسرائيل والعديد من الاقطار الخليجية، وأخيرا شكل السلام الاقتصادي كما يروج له نتانياهو في فرضه هذا السلام على الفلسطينيين بعيدا عن أي تسوية سياسية حقيقية وواقعية يعرضها على الفلسطينيين. وأما السمة الثانية فهي أن هذه الموجة الثالثة تعتمد في مشروعيتها على الخطر من طرف ثالث وليس الخطر المبني على سلوك الدول أطراف العلاقة، وأقصد هنا ما يتم الترويج له عن الخطر الشيعي الايراني وضرورة تشكيل محور "سني- اسرائيلي" لمواجهه العدو المشترك. وثالث هذه السمات تكمن في أن هذه الاتفاقات استثنت في حيثياتها جوهر الصراع؛ وهم الفلسطينيون الذين نشأ الصراع بسبب قضيتهم واحتلال أراضيهم. ورابع هذه السمات متضمن في أن هذه الاتفاقات ليست بتاتا شعبية وانما ارتبطت بقبول القيادات والنخب السياسية فقط، فهي ليست محط رضا من قبل الجمهور العربي وحتى الجمهور الاسرائيلي، حيث تشير استطلاعات الرأي بأن الاسرائيليين حذرين وغير متحمسين لهذه الاتفاقات. وآخر هذه السمات يكمن في أن هذه الاتفاقات لم ترتبط فقط بمصلحة الدولة القومية، وانما ارتبطت بالاساس بالمصلحة الشخصية الانتخابية لكل من نتنياهو وترامب على وجه الخصوص، حيث يسعى الشخصين باجتهاد الى اعادة انتخابهما مرة أخرى في ظل أزمات اقتصادية وأزمات فساد لا تخفى على أحد.
في الواقع، تخبرنا هذه السمات السابقة بأن موجة التطبيع الثالثة لن تكون متماسكة أمام المتغيرات التي ستعصف بالاقليم والعالم. ويمكن النظر الى أن تغيير مواقف ايران "العدائية" حسب التعبير الاسرائيلي والخليجي، ربما سيتم اختراقه، لاسيما اذا ما فاز بايدن في الانتخابات الامريكية. ويمكن اعتبار بشكل أو بآخر بأن توافق حزب الله وقبوله للبدء في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل بأنه مؤشر على التغيير في السياسة الايرانية في المنطقة. وفي هذه الحالة، واذا ما انتهت الازمة في اليمن وتم استرجاع العمل باتفاق 5+1، فلن يعد هنالك مبرر كافي للدول الخليجية لمزيد من تطبيع العلاقات مع اسرائيل. من زاوية أخرى، لن يكون المرشح الديمقراطي بايدن متحفزا بشدة اذا ما فاز بالانتخابات في نوفمبر القادم الى الضغط على الدول العربية لعقد اتفاقات تطبيع مع اسرائيل كما هو الحال عليه بالنسبة لادارة ترامب التي تفرض ضغوطا شديدة على بعض الاقطار العربية من أجل التطبيع مع اسرائيل كما هو الحال في الحالة السودانية. وفي الواقع، فان السلام لن يكون حقيقيا اذا لم تثق به الشعوب وتحظى بمزاياه، كما انه لن يستقر في المنطقة بدون التسوية مع الفلسطينيين، وهو ما أشار اليه بوضوح دور شالوم رئيس شعبة البحوث في الاستخبارت العسكرية الاسرائيلية في حديثه مؤخرا مع شبكة ايلاف السعودية. وفي المحصلة، فان السلام الشامل والعام لن يتحقق في ظل الممارسات الاسرائيلية العدائية ضد الشعب للفسطيني والذي لن تقبله بتاتا الشعوب العربية وخاصة أنه يمس بالمقدسات الاسلامية.
بالضرورة، استطيع أن أجادل بأن الموجة الثالثة للسلام في المنطقة ستصطدم حتما بتغير المصالح والولاءات، وستكون مرتبطة الى حد كبير بنتائج الانتخابات الامريكية. وفي السياق ذاته، لن تستمر أي اتفاقات سلام في المنطقة العربية بدون تحقيق سلام يرضى به الفلسطينيون. وبالتأكيد لن يقبل أي فلسطيني صفقة القرن التي لا تلبي الحد الادني من المطالب، وسيكون على اسرائيل والولايات المتحدة أن تدرك أن الموجة الثالثة للتطبيع بدون السلام مع الفلسطينيين ستبقى موجة خالية من السلام. وعلى النقيض، ستواجه هذه الموجة انتكاسة حقيقية اذا ما أدت هذه الاتفاقات الى تشكيل محاور اقليمية تتصارع فيما بينها الدول الكبرى في المنطقة؛ وأقصد هنا ايران وتركيا في مواجهه العربية السعودية ومصر واسرائيل. وفي هذه الحالة، ستتحول المنطقة من سلام بارد مع اسرائيل الى صراع دموي تشترك فيه غالبية دول المنطقة، وربما دولا عظمى لها مصالح في المنطقة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com