الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 09 / نوفمبر 16:02

في الذكرى ال -64: من المسؤول عن مجزرة كفر قاسم؟ بقلم- إبراهيم عبدالله صرصور

إبراهيم عبدالله صرصور
نُشر: 21/10/20 07:36,  حُتلن: 08:58

لأول وهلة قد يبدو السؤال المطروح في عنوان المقال، ساذجا، فمن لا يعرف المسؤول عن مجزرة كفر قاسم؟ الكل يعرف بالطبع!! تعالوا ننظر في الإجابة المتداولة إسرائيليا.. بعد أربعة وستين عاما، ما زال الكيان العبري مصرا على ان الذين نفذوا المجزرة هم بعضٌ من جنودها الذين أساءوا فهم الأوامر الصادرة لهم، فارتكبوا "حماقة!!!" دفعوا ثمنها في إطار محاكمة "عادلة!!" و "جريئة!!" وضعت النقاط على الحروف الى درجة ان رئيس هيئة القضاة في المحكمة (دكتور بنيامين هليفي)، حدد في سابقة قضائية ما قيل إنه "علم أسود يرفرف من فوق أمر غير قانوني بشكل صارخ"، يجب ألا يُنَفَّذَ مهما كانت الأسباب والمبررات!! اين الحقيقة من هذا الكلام الذي ظاهره حسنٌ وباطنه سُمٌّ ناقعٌ وعفنٌ خبيث!! هل فعلا ان الجواب على السؤال هو ما تصر عليه إسرائيل منذ أكثر من ستة عقود، ام ان الحقيقة موجودة في مكان آخر، بعيدا عن هذه الدعوى الكاذبة؟!...

الحقيقة التي لا مراء فيها ان القتلة من جنود حرس الحدود الاسرائيلي هم فعلا من ضغطوا على الزناد فقتلوا بدم بارد ووحشية نادرة الرجال والنساء والشيوخ والشباب والأطفال المسالمين الذين عادوا الى قريتهم بعد يوم عمل شاق، في ذلك المساء الدموي الحزين، الاثنين 29 من شهر تشرين اول عام 1956م، في مشهد لم نر مثله الى في العهد النازي.. إلا ان هؤلاء الجنود كانوا مجرد الأداة التي نفذت الجريمة، اما من أصدر الاوامر القاتلة، ومن ربى هؤلاء الجنود ليكونوا ماكنات قتل وجريمة، ومن نَشّأَهم على اعتبار العرب أعداء يجب قتلهم دونما تردد عند او فرصة سانحة، فكانوا في ارفع مناصب الدولة: دافيد بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع، موشي ديان رئيس هيئة اركان الجيش، تسفي تسور قائد المنطقة الوسطى العسكرية، ويسسخار شادمي قائد اللواء 17 في المنطقة الوسطى للجيش الإسرائيلي، المسؤول عن حماية الحدود مع الأردن عندما وقعت المجزرة الرهيبة، ومعهم كل من شارك في المشاورات وادلى برأي في المناقشات، ولم يرفع يدا في وجه القرارات التي اتخذت في النهاية لتكون السكين التي ذُبحَ بها الأبرياء من سكان كفر قاسم الآمنين..

ليس هذا فقط، بل ان الجريمة التي انخرطت فيها إسرائيل الدولة من قمة رأسها حتى أخمص قدمها، لم تكن مجرد جريمة حرب، لكنها كانت جزءا من مخطط أراد بن غوريون وعصابته ان يكملوا به ما ظل ناقصا من خططهم التي وضعوها قبل أعوام ثمانية فقط، والتي كان من أخطرها الخطة (دالت) التي جاءت تتويجا جهنميا وشيطانيا لخطط سبقتها انتهت الى تهجير 85% من الشعب الفلسطيني من وطنه فلسطين قبل حرب العام 1948م، وارتكاب عشرات المجازر التي راح ضحيتها آلاف الأبرياء المسالمين، وتدمير أكثر من 500 مدينة وقرية فلسطينية.. حملت مجزرة كفر قاسم روح تلك الخطة الفاشية، لكنها لبست هذه المرة اسما جديدا هو (حفرفيرت) بالعبرية، والذي يعني بالعربية (الخُلْد/الحيوان الذي يحفر الأرض ويختفي فيها) وبالإنجليزية (Mole).. هدف هذه الخطة الموضوعة مبكرا هو تهجير من تبقى من الفلسطينيين في وطنهم بعد نكبة العام 1948، والإبقاء على إسرائيل دولة يهودية خالصة لليهود من دون الناس، وبنفس الطريقة الدموية التي اتبعوها أثناء النكبة..

نظرت المحكمة العسكرية في مقر وزارة الأمن الإسرائيلية في تل أبيب، في تموز من العام 2018، في طلب تقدم به المؤرخ الإسرائيلي (آدم راز) للكشف عن الوثائق السرية المتعلقة بمجزرة كفر قاسم، بما في ذلك الوثائق ذات العلاقة بمخطط (حفرفيرت/الخُلْد/Mole)، والتي راح ضحيتها واحد وخمسون شخصا من سكان كفر قاسم، من النساء والرجال، والكبار والصغار، والشباب والشيوخ، بما في ذلك جنين ابن ثمانية شهور لقي مصرعه في بطن امه الشهيدة فاطمة داود صرصور..

ناقشت المحكمة العسكرية في تل ابيب في صيف العام 2018، طلبا للمؤرخ الإسرائيلي (آدم راز) للكشف عن جميع الوثائق التي ما زالت سرية والمتعلقة بمجزرة كفر قاسم، بما في ذلك الوثائق ذات العلاقة بخطة التهجير (حفرفيرت).. لم تصدر المحكمة قرارها حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات (2020)، ويبدو انها لن تصدر قرارا بهذا الشأن لما سيسببه ذلك من حرج شديد لإسرائيل بسبب حجم الجريمة التي ارتكبتها في حق مواطنين مسالمين كان كل ذنبهم انهم عرب فلسطينيون رفضوا الهجرة، وأصروا على البقاء في ارض الوطن مهما كلفهم ذلك من أثمان.. يقول مقدم طلب الكشف عن هذه الوثائق، إن: "الأغلبية الساحقة من المواد ما زالت غير متاحة. وقد فوجئت عندما اكتشفت أن الكتابة عن التاريخ النووي الإسرائيلي أسهل من الكتابة عن سياسة إسرائيل تجاه مواطنيها العرب"...

سنثبت في هذا المقال هذه الحقيقة من خلال اعترافات حصل عليها المؤرخ الإسرائيلي (آدم راز)، في لقاءات له (يسسخار شادمي) عام 2017، وهو واحد من أكبر المسؤولين المباشرين عن هذه المجزرة، ومن خلال كتابه الفريد وغير المسبوق في حجم معلوماته وما كشفه من تفاصيل يتم الكشف عنها لأول مرة، والذي صدر عام 2018 تحت عنوان (مجزرة كفر قاسم – السيرة السياسية)، والذي وُصِفَ حسب تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" في حينه، ب - "البحث التاريخي الأول حول المجزرة". قضى (راز) بضع سنوات في مراجعة الوثائق المتاحة في الأرشيفات، ومحاضر اجتماعات الهيئات الإسرائيلية، ومقابلة أشخاص كانوا ضالعين في هذه القضية.

يساخار شيدمي والاعتراف الأخير..

كان يساخار (يشكا) شيدمي، أحد هؤلاء الأشخاص الذين التقاهم المؤرخ (راز)، وقد كان قائد لواء 17 في المنطقة الوسطى للجيش الإسرائيلي، عندما وقعت المجزرة الرهيبة، في 29 تشرين الأول العام 1956، وهو ذات اليوم الاثنين الذي شنت فيه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا العدوان الثلاثي ضد مصر. جرت المقابلة مع شيدمي في صيف العام 2017، وأدلى خلاله بشهادة واعترافات أمام راز ومراسل "هآرتس"، عوفر أديرت. مات شيدمي عام 2018 عن عمر ناهز ال - 96 عاما.

من المعروف أن محكمة عسكرية إسرائيلية أدانت ثمانية من أصل أحد عشر ضابطا وجنديا في كتيبة حرس الحدود التي نفذت المجزرة الوحشية، وفرضت عليهم فترات عقوبة بالسجن الفعلي لفترات قصيرة، ومع ذلك فقد تم إطلاق سراحهم جميعا بعد فترة وجيزة، وتم تعيين قسم منهم في وظائف رفيعة، بينهم قائد الكتيبة، شموئيل ميلينكي، الذي تم تعيينه مسؤولا عن الأمن في مفاعل ديمونا النووي. أما شيدمي، ورغم إدانته بالمسؤولية عن مقتل نصف الشهداء الذين سقطوا في المجزرة، فقد كانت عقوبته بدفع غرامة مبلغها (قرش واحد!!!)، عُرف في تاريخ المجزرة ب – "قرش شدمي"، في إشارة الى استهتار إسرائيل بدماء الأبرياء الذين قتلتهم بدم براد، ومحاولة بائسة لتبرئة القيادة العسكرية والسياسية "المرموقة!!" في الدولة، من اية مسؤولية عن المجزرة...

في لقائه مع المجرم (شيدمي)، اعترف الأخير بمجموعة من الاعترافات كانت طي الكتمان لعقود طويلة من الزمن.. من اهم هذه الاعترافات:

أولا – ان المحكمة التي انعقدت لمحاكمته ومحاكمة منفذي المجزرة من جنود حرس الحدود وقادتهم، كانت (صورية!!)، هدفها إبعاد القيادة العسكرية والسياسية العليا (رئيس الحكومة ووزير الدفاع، دافيد بن غوريون، ورئيس أركان الجيش، موشيه ديان، وقائد المنطقة الوسطى ورئيس الأركان لاحقا، تسفي تسور، الملقب بـ - "تشارا")، عن شبح اية مسؤولية عن المجزرة.. أضاف شيدمي في اللقاء معه، أن الهدف من المحكمة كان استعراض مشهد كاذب حول تحقيق العدالة أمام المجتمع الدولي، وإسقاط/شطب القضية من على جدول اهتمام واعمال المجتمع الدولي. لكن المؤرخ راز مقتنع بأنه في خلفية ذلك كانت محاولة لإخفاء "عملية الخُلْد" (الخلد هو حيوان يحفر في الارض)، وهي عبارة عن خطة سرية لطرد العرب في منطقة المثلث إلى الأردن، والتي لم يتم الكشف عن تفاصيلها حتى اليوم.

ثانيا – تعهدت الحكومة بتوفير أفضل دفاع قانوني له، من خلال تعيين المحامي يعقوب سولومون، وهو أحد كبار المحامين الإسرائيليين حينذاك، وكيلا له بتمويل من الدولة. وقال شيدمي إن: "توازن القوى" بين النيابة العسكرية الضعيفة ومحامي الدفاع الكبير كان يميل لمصلحته منذ البداية. وقد اعترف شيدمي أنه: "قيل لي إنه بإمكاني الاعتراض على قضاة لا أثق بهم"، وأن بن غوريون شخصيا قال له: "أنت ستختار القضاة". كذلك قال له نائب المدعي العام العسكري حينها، مئير شمغار، الذي أصبح رئيسا للمحكمة العليا لاحقا: إن "هذه محاكمة صورية" وأنه لا ينبغي أن يقلق "فنحن وفّرنا دفاعا لك". أكد شيدمي أيضا أن: "شمغار همس بأذني أن كل هذا لمصلحتي"....

عثر المؤرخ (راز) على وثيقة في الأرشيف حول إحدى جلسات محاكمة شيدمي، جاء فيها إن المدعي العام العسكري توجه إلى شيدمي، ووضع يده على كتفه وسأله: "كيف حالك، يشكا، وكيف حال الوالد؟". كان والده قاضيا عسكريا في حينه. لكن شيدمي يقول الآن إنه أدرك بعد هذه الجلسة أنه: "بات ممثلا في مسرحية أكبر مما توقع."..

جاء في اعترافاته أيضا أن المحامي (سولومون)، بأمر مباشر من بن غوريون، سعى إلى استخدامه ك – "حاجز!!”، مهمته الفصل بين قادة الجيش الإسرائيلي وقادة الدولة وبين مجزرة كفر قاسم، وأن يمنع بذلك توجيه لائحة اتهام إلى آخرين. "لقد أدركت أن الخط الذي حاول المحامي سولومون أن أسير فيه كان خطا دفاعيا هدفه الحماية ضد اتساع القضية لتشمل القيادة من فوقي". وقال شيدمي إنه كان مقتنعا بأن: "على القضاة حماية تشارا" وأن سولومون "لا يدافع عني، وإنما يدافع عن الجيش الإسرائيلي وعن تشارا (يعني تسفي تسور)، كي لا تصعد الأمور إلى (مستويات) أعلى"....

ثالثا - ان المجزرة حملت اجندة سياسية، وأن محاكمة شيدمي الصورية جاءت لحماية مسؤولين أرفع مستوى منه، وذلك من أجل: 1. ابعاد شبح إدانة ومحاكمة دولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.. 2. إعفاء الدولة من تحمل اية مسؤولية جنائية او قانونية او سياسية او أخلاقية عن الجريمة.. 3. محاولة التستر على وجود خطة سرية إسرائيلية باسم "عملية الخلد"، التي تهدف إلى تنفيذ عملية ترانسفير، تهجير العرب في المثلث، وبينهم سكان كفر قاسم، إلى الأردن.

كذبة اسرائيل الكبرى..

وجد المؤرخ (راز) في ارشيفات الدولة على وثائق تدعم أقوال شيدمي وتؤيدها. فقد قال بن غوريون في اجتماع للحكومة، عُقد في 23 تشرين الثاني 1958، أي قبل شهر تقريبا من بدء محاكمة شيدمي، إنه: "أعتقد، من خلال محادثة مع شيدمي، أنه لن يدعي أنه تلقى أمرا عسكرية بأنه ينبغي إطلاق النار... وتسور لن يخضع للمحاكمة". بدوره قال شيدمي إن شمغار أبلغ والده، الذي كان رئيس محكمة الاستئناف العسكرية، بأن: "إشْرَحْ لابنك أنه لا أحد يريد تجريمه، وإنما نريد الدفاع عن الجيش الإسرائيلي"...

بالرغم من اعتراف شيدمي بانه كان متحفظا من المشاركة في مسرحية نسجت فصولَها أوساطٌ عُليا في الدولة من أجل تحقيق هدف محدد، الا انه يعترف أيضا أنه في النهاية شارك في المسرحية، ونطق بالكذبة الكبرى التي ما زالت إسرائيل تعتمد عليها في (تبرئة!!!) ذمتها من دم ضحايا كفر قاسم.. اعتراف شيدمي بان ما قاله في المحكمة كان كذبا، وانه خدم بهذا الكذب "دولته إسرائيل"، يعيدنا الى المربع الأول، وهو ان المستوى العسكري والسياسي الأعلى في إسرائيل مسؤول مسؤولية مباشرة عن المجزرة، وان استمرار قادة إسرائيل بالتنكر لهذه الحقيقة سيظل ذرا للرماد في العيون.. فإن نجحت إسرائيل في إسكات الحقيقة وإخفائها عن الباحثين عن العدالة بعض الوقت، فإنها لن تنجح في اسكاتها وإخفائها كل الوقت..

ما هي هذه (الكذبة الكبرى) التي اعترف شيدمي صراحة انه كذبها في المحكمة استجابة لطلب شخصي من دافيد بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع؟ كان شيدمي مصرا من البداية على ان الحقيقة تقول انه تلقى الأوامر الصريحة والواضحة من الجنرال (تسفي تسور) قائد المنطقة الوسطى العسكري بفرض منع التجول في قرى المثلث العربي بكل قوة وبدون (عواطف)، والذي يعني: قتل كل من يتواجد خارج بيته بعد ساعة دخول منع التجول بدون تمييز، وأنه (أي شيدمي) نقل الأوامر كما تلقاها تماما لمن كان تحت قيادته (شموئيل مالينكي) قائد الوحدات المكلفة بفرض منع التجول في منطقة المثلث العربي من كفر قاسم جنوبا وحتى بير السكة شمالا، ومالينكي نقل الأوامر ذاته لقادة المجموعات بما في ذلك قائد الجنود القتلة الذي ارتكبوا جريمتهم في كفر قاسم .. هذه هي الحقيقة التي آمن بها شيدمي ودافع عنها حتى النهاية، قبل ان يستسلم لأوامر بن غوريون، ويغير إفادته على نحو يحقق لبن غوريون ما أراد.. اعتراف شيدمي هذا لا يقلل ابدا من ضلوعه المباشر في الجريمة، ومن حقيقة ان يديه ملطخة بدماء الأبرياء تماما كأيدي كل القيادة العليا العسكرية والسياسية، الا انها تظل ذات أهمية عالية لما تحويه من اعتراف بالحقيقة وهي ان الأوامر صدرت من اعلى المستويات، وان كَذِبَهُ في المحكمة لن يغير من الحقيقة شيئا، وان إسرائيل بهذا تتحمل كدولة المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية الكاملة عن جريمتها تجاه كفر قاسم خصوصا والمجتمع العربي عموما..

كذبة شيمي اوقعته في حرج اثناء المحاكمة إذ تصادمت افادته مع إفادات الضباط الآخرين وخصوصا (مالينكي) الذي أكد على ان الأوامر (الدموية) قد أبلغه بها شيدمي، وسمعها منه مباشرة، مضيفا انه طرح في لقائه مع شيدمي عددا من الأسئلة حول العمال العائدين من عملهم، وحول النساء والأطفال الذين يمكن ان يكونوا في صورة الحدث، فكان الجواب حاسما (بلا عواطف)!! اقتبس مالينكي في شهادته اما المحكمة من الأمر العسكري الذي أصدره شيدمي له، بأن: "كل من يشاهَد خارج البيت، يخرق حظر التجول، يطلق النار عليه. ويفضل أن يسقط عدد منهم، لكي يتعلموا الدرس للمرات المقبلة" و "لا أريد مشاعر، ولا أريد اعتقالات"، وبعد أن أصر مالينكي على تلقي إجابة واضحة، قال له شيدمي: "الله يرحمه"...

إسرائيل كدولة هي المسؤولة..

بقي السؤال: من الذي اعطى الأوامر التي مررها شيدمي الى مالينكي؟ من الواضح ان (تسفي تسور) هو الذي اعطى الأوامر الدموية لشيدمي، وهي ذاتها الأوامر التي تلقاها من قائد الأركان (موشي ديان)، والذي بدوره تلقى الضوء الأخضر بشأنها من وزير الدفاع ورئيس الوزراء (بن غوريون).. هذا هو التسلسل المنطقي لسلسلة الأوامر القاتلة، والتي كشفت المداولات والشهادات المتناقضة في محكمة الجنود القتلة وقيادتهم، او في محكمة شيدمي التي حرص بن غوريون على ان تكون منفصلة عن محكمة المنفذين المباشرين للمجزرة لأسباب لا تخفى، كشفت عن الحقيقة التي لم تعد خافية، والتي جاءت اعترافات شيدمي بصددها قبل وفاته بأشهر قليلة لتضع حدا لكذب دولة إسرائيل الذي استمر لنحو أربعة وستين عاما..

دافع بن غوريون عن كل المجرمين في قضية مجزرة كفر قاسم حتى النفس الأخير، فكما ضمن ان تُصْدِرَ المحكمة حكمها الهزيل على (يسسخار شيدمي)، حيث أدانته ببند إجرائي حول "خرق صلاحياته" عندما أصدر تعليمات حول ساعة بدء حظر التجول وطبيعته، فيما تعليمات كهذه هي من صلاحيات الحاكم العسكري، فقد ضمن أيضا ان تكون احكام المحكمة ضد المجرمين المباشرين مخففة قدر المستطاع، تمهيدا لقرار العفو الرئاسي الذي صدر بحقهم بعد مدة قصيرة بأوامر أيضا من بن غوريون نفسه.. قال شيدمي في شهادته امام المؤرخ (راز) عام 2017، إنه لم يفاجأ من قرار الحكم والغرامة المفروضة عليه، وأن المحاكمة كانت صورية من أولها إلى آخرها... لذلك لم يكن مستغربا أبدا لن يُقام حفل كبير لشيدمي بعد انتهاء المحكمة، في كيبوتس "سدوت يام"، بحضور بن غوريون ورئيس أركان الجيش، واستقبل فيه شيدمي كبطل.. كما لم يكن مستغربا ان يعترف شيدمي في لقائه مع (راز) عام 2017، بأنه حصل مقابل أدائه في المحكمة على ما فاق خياله، فقال: " "تشارا (يعني تسفي تسور)، حملني على كفوف الراحة. ما الذي لم أحصل عليه؟ حصلت على كل ما أريد"، مضيفا: "لقد سكتّ، ولم أشهد ضد الجيش الإسرائيل. وتسور أدرك أني أنقذته. لأنه كان بإمكاني أن اقول إنني تلقيت أمرا عسكريا منه (بارتكاب المجزرة). ولم أقل هذا.. أصبحت بعد ذلك مقاولا كبيرا لوزارة الأمن، وكسبت مالا كثيرا من هذه الأعمال.. لقد اهتم بي (تسور) بسخاء"... تماما كما تم الاحتفاء بباقي المجرمين بعد صدور قرار العفو الرئاسي بصددهم، وإن على نار أكثر هدوء..

المجازر وخطط التهجير..

ويقول راز إن التفاصيل الكاملة لخطة الترانسفير هذه لم تُكشف وما زالت تخضع للسرية والرقابة العسكرية لا تسمح بكشفها وهي محفوظة في أرشيف الجيش الإسرائيلي. كذلك فإن جلسات محاكمة شيدمي التي جرى خلالها التطرق إلى "عملية الخلد"، عُقدت خلف أبواب مغلقة وكانت سرية. وجرى التطرق إليها أحيانا بأسماء مشفرة، مثل "الأمر العسكري المشهور" الذي يتطرق إلى "حيوان الحقل من عائلة الثدييات".

تمكن المؤرخ خلال البحث الذي أجراه، من كشف بعض تفاصيل خطة الترانسفير هذه، بواسطة وثائق كانت بحوزة محامي أشخاص ضالعين في المجزرة، ومقابلات معهم وبمساعدة معهد "عاكيفوت" المتخصص بكشف وثائق أرشيفات متعلقة بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وعثر بين وثائق محامي ميلينكي على وثيقة احتوت على الجمل التالية: "أولا، تطويق القرية. ثانيا، إبلاغ مسني القرية بالإجلاء مع إعطاء إمكانية عبور الحدود حتى الوقت المحدد (ثلاث ساعات)"... كما ووضع راز يده على وثيقة محفوظة للضابط برتبة لواء أبراشا تمير، الذي كتب خطة الترانسفير هذه، وبموجبها أن "بن غوريون طلب وضع خطة حول ماذا نفعل بالسكان العرب في المثلث" في حال نشوب حرب بين إسرائيل والأردن. وكان بن غوريون قد قال بنفسه في العام 1953 إنه: "يوجد حل لعرب المثلث، وهو متعلق بما إذا كانت ستنشب حربا أم لا".

يقول (راز) إن "مجزرة كفر قاسم لم تنفذها مجموعة منفلتة من الجنود، مثلما هو الادعاء منذئذ وحتى اليوم. من وجهة نظر مرتكبيها، هم نفذوا الأمر العسكري الذي كان هدفه طرد سكان القرى"، ويوثق بالاستناد إلى وثائق لقاءات بين قائد الكتيبة ميلينكي وضباط كبار، قبل المجزرة، وناقشوا خطة الخلد مباشرة، وأحيانا من خلال ذكر اسمها الصريح. قبل خمسة أيام من المجزرة، بحسب إفادة (مالينكي)، التقى مع (تسور) الذي أبلغه بأنه إحدى مهمات كتيبته خلال الحرب القريبة ستكون تهجير عرب المثلث.

اعترف شيدمي نفسه بعد المجزرة بأن: "الاقتراح الأخير قبل يوم تنفيذ العملية كان على شكل أمر عسكري لعملية (الخلد) الذي صدر عن قيادة المنطقة الوسطى. وهذا الأمر العسكري يفصل بشكل دقيق طريقة إجلاء السكان من منطقة الحدود في المرحلة الأولى لانتشار القوات. وقد أظهرت أمام ميلينكي الأمر العسكري الخلد كمائدة جاهزة يتعين عليه أن يستعد بموجبها. وأجاب ميلينكي أن ملف الأمر العسكري الخلد من إعداده هو"....

رأى (راز) أن: "خطة الخلد أدت دورا مركزيا، وفهم الجنود وبحق أن الأمر العسكري بفرض حظر تجول صارم، هو مرحلة أولى في طرد سكان القرى، وعملوا بموجب السقف الأعلى للأمر العسكري. وهم كانوا محقين بتفسيرهم: نفذوا حظر تجول، هدفه طرد العرب في حال وجدت إسرائيل والأردن نفسهما في حالة حرب. وإمكانية طرد عرب النقب أثناء حرب مستقبلية مع الأردن كانت سياسة يمكن تطبيقها بالنسبة لبن غوريون وديان وآخرين". واقتبس من أقوال ديان إنه "آمل أنه ربما ستكون في السنوات القريبة إمكانية أخرى لتنفيذ ترانسفير لهؤلاء العرب من أرض إسرائيل"...

ليسوا استثناء..

لماذا لم يقع ضحايا في القرى الأخرى التي فُرِضَ عليها منع التجول؟ وهل يُثبت ذلك ما ذهبتْ اليه إسرائيل الرسمية من ان مجزرة كفر قاسم كانت حدثا خارجا عن السياق، وخطأ موضعيا تم معالجته وانتهى الأمر، ولا يمثل "أخلاقية!!" الجيش الإسرائيلي، و.. و.. و...

الحقائق العلمية التي كشف عنها المؤرخ (راز) تثبت بما لا يدع مجالا للشك ان الأوامر الصادرة لتنفيذ حظر التجول كانت واحدة في وحشيتها وقسوتها ودمويتها، وكان الجنود والضباط في جميع الوحدات التي كلفت لتنفيذ الحظر في القرى العربية أبناء "ثقافة دموية" واحدة تقوم على كراهية العرب، واعتبارهم أعداء وتهديدا يجب التعامل معه بكل القسوة من اجل "تحييد!!!!!!!!" عند أول فرصة.. أكبر دليل عل ذلك، أن معظم المتهمين في مجزرة كفر قاسم لم يندموا على أفعالهم، وبرروا جرائمهم بالادعاء الجنائي بـ "طاعة الأوامر". أحدهم، شالوم عوفر، أمر جنوده "بحصدهم"، قال في مقابلة مع الصحفية داليا كاربل (صحيفة هعير - 10.10.86) بمناسبة الذكرى ال – 30 للمجزرة: "كنا مثل الألمان، أوقفوا الشاحنات، أخذوا الناس إلى الأسفل وأطلقوا النار عليهم. هكذا فعلنا نحن أيضا.. لا فرق.. نفذنا الأوامر تماما كما نفذها الجندي الألماني الذي أمره قادته بقتل اليهود"..

ما وقع في كفر قاسم، كان يمكن ان يقع في غيرها من القرى لو ان اعداد العمال والعاملات العائدين من أعمالهم كانوا بحجم العائدين من سكان كفر قاسم. شاءت قدرة الله الا تتعرض باقي القرى العربية الى ما تعرضت اليه كفر قاسم بسبب ان أحدا لم يكن خارج بيته مع بداية حظر التجوال، ما عدا ما وقع في الطيبة والطيرة من حادثي قتل بدم بارد يدلان على القاعدة ان الجنود كانوا مستعدين للقتل فورا وبدون تردد عند ظهور عربي امامهم رجلا كان امرأة او طفلا..

دليل ذلك ما وقع في الطيبة مثلا في نفس الليلة، حيث أطلق قائد الخلية (إدري أرموند) النار على الطفل عقل محمود جاب (13 عاما) – رحمه الله، كان ارسله ابوه لشراء علبه سجائر دون ان يعلم بتقديم موعد حظر التجول..

وقع مثل ذلك أيضا في الطيرة، فقط أطلق الجندي (دافيد مزراحي) النار على نمر عبدالجابر سلطان (66 عاما) – رحمه الله، رجل عجوز كان في طريق عودته الى القرية من حقله.. لن يكن باستطاعة نمر ان يركض باتجاه القرية، ومشى كالعادة الى بيته.. عندما اقترب من القرية أطلق عليه الجنود وجرحوه في يده، فصاح: "انا من سكان الطيرة، وهذه هويتي".. تقدم اليه جنديان وقتلوه!...

حسب شهادة (حاييم ليفي) قائد احدى الكتائب، قال انه فهم من أمر مالينكي انه يجب قتل كل العائدين حتى لو كانوا مئات وآلاف القتلى!...

يلخص المؤرخ (راز) الجواب على هذا السؤال مشيرا إلى أن السبب في أن المجزرة وقعت في كفر قاسم (وبحجم أقل في الطيرة والطيبة التي قتل في كل منهما شخص واحد)، لا يرتبط بضوابط مشاعرية أو أخلاقية (و/أو بالكينونة الديموقراطية للجنود)، لكنه يرتبط بأسباب موضوعية بحتة، هي انه لم يكن هنالك عائدون، فلما حدث ان خرج طفل في الطيبة قتلوه دون تردد، وعندما ظهر عجوز في الطيرة قتلوه أيضا.. يعني، لو كان هنالك مائة عادوا الى الطيبة لقتلوا كما قتل الطفل عقل، ولو عاد مائة الى الطيرة لتقلوا أيضا كما قتل نمر!!...

أشار الى هذا المعنى (القاضي يهودا كوهين) الذي كان ضمن رأي الأقلية، حيث أكد على انه لا يمكن الوثوق في شهادات الضباط والجنود في القرى الأخرى التي لم يقع فيها قتل بحجم القتل الذي وقع في كفر قاسم، من انهم "حكموا العقل ولم ينفذوا الأوامر حرفيا كما جاءت"، فهذا حسب رأي القاضي: محاولة غير مقنعة لادعاء الحكمة ولكن بعد ان وقع المحظور، إذ أن الوقائع مجتمعة تثبت عكس ذلك تماما!...

لا جديد تحت الشمس..

هل تغيرت السياسة الأمنية الإسرائيلية تجاه المجتمع العربي بعد مجزرة كفر قاسم والى اليوم؟ هل كانت مجزرة كفر قاسم آخر الاحداث الدموية؟ هل تغيرت العقلية الأمنية تجاه العرب؟ ماذا بقي من العلم الأسود الذي يرفرف فوق الامر غير القانوني بشكل صارخ؟ هل تغيرت منهاج التعليم في كليات اعداد الجنود والضباط في الأجهزة الأمنية المختلفة، في كل ما يتعلق بموقع العرب ومكانتهم في الدولة؟ مع الأسف، الجواب: لا.. ولا، كبيرة جدا.. فالمجازر استمرت (يوم الأرض 1976، هبة القدس والاقصى 2000، مجزرة شفاعمرو 2005.. الخ)، إضافة الى ارتكاب الأجهزة الأمنية اعمال قتل ميدانية لمواطنين عرب أبرياء بلغ عددهم منذ العام 2000 وحتى اليوم نحو سبعين قتيلا، كان آخرهم الشهداء الأستاذ يعقوب أبو القيعان من قرية حورة بالنقب (2018)، ومصطفى يونس من قرية عرعرة (2020)، والشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة إياد الحلاق من مدينة القدس المحتلة (2020)، بينما لم تقدم أية لائحة اتهام ضد الضالعين في اعمال القتل هذه من عناصر الأجهزة الأمنية المختلفة.. من اجل ذلك، ما زال جرح مجزرة كفر قاسم ينزف رغم مرور أربعة وستين عاما على وقوعها.. اما نحن، فلن ننسى، ولن نغفر، ولن نسامح ابدا.. ابدا..

ابراهيم عبدالله صرصور-  الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

مقالات متعلقة

.