رحيل عاشق المفاوضات صائب عريقات| بقلم: أحمد حازم

أحمد حازم
نُشر: 01/01 11:12,  حُتلن: 15:02

رحل صائب عريقات رجل المفاوضات والأسرار الرئاسية، وهو مثقل بما يحمله من ملفات مفاوضات

رحل عاشق مفاوضات أراد منها أن تثمر دولة فلسطينية، فأثمرت مزيداً ومزيداً من الإستيطان والإستيلاء على الأرض الفلسطينية

صحيح أن الأعمار بيد الله، وأن ما يصيبنا هو ما كتبه الله لنا. لا جدال في هذا مطلقاً. لكن عندما سمعت عن تدهور حالة د. صائب عريقات الصحية وإصابته بـ "كوفيد 19" قلت في نفسي متمتماً: قد تكون هذه النهاية والعلم عند الله خصوصاً أن الراحل أجرى في السابق عملية زرع رئتين. وشاء القدر أن تكون نهاية "كبير المفاوضين" في مستشفى إسرائيلي يحمل اسم عين كارم بالقرب من القدس. وليس من السهل أن يفهم المواطن في الدول العربية وحتى المواطن الأجنبي، أن دولة الإحتلال التي كان الراحل يهاجمها وينتقدها بشدة في جميع مجالسه ولقاءالته و"مفاوضاته" هي التي استقبلته وأشرفت على علاجه.


أنا شخصياً، أتفهم"حيرة" المواطن العربي، لكن السياسة كما نعلم لها ألاعيبها التي يجيدها الكبار ولا يفهمها الصغار. تعرفت على الراحل أول مرة في مؤتمر مدريد للسلام الذي انعقد في العام 1991. كنت أراه في حركة دائمة نشيطاً بدون كلل أو ملل، لكن أي "تحرك" سياسي محسوب على صاحبه، وفي كثير من الأحيان "يعود" السياسي إلى " المرجعية" قبل أن يقع في خطأ قد يبعده عن السياسة كلياً.
كانت علاقتي بالراحل الدكتور حيدر عبد الشافي جيدة، وكان هو الذي يرأس الوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد. سأت الدكتور الشافي عن هذا الشاب (النشط) صائب فأجابني: " شاب مليء بالحيوية له مستقبل في عالم السياسة". سطع نجم هذا الشاب فيما بعد، وأوكلوا إليه مهمة (المفاوضات) وهي بنظري أصعب مهمة. قبلها صائب عريقات على أمل أن يسجل له التاريح (إنجازاً) في المساهمة في تأسيس دولة فلسطينية. صحيح أنه توفي بدون صراع طويل مع المرض، لكنه انتقل إلى الآخرة بعد صراع طويل مع "العدو الإسرائيلي" دون أن يرى الدولة الفلسطينية التي كان يحلم بها، بل رأى وعاش على جزء قليل من الأرض الفلسطينية.
كان معروفاً لدى القيادة الفلسطينية منذ فترة الراحل أبو عمار، أن صائب عريقات هو السياسي المميز عند الريس عرفات. وقد تكون هناك أسباب عديدة. وحسب تجربتي مع قيادات فلسطينية فليس مهماً بالنسبة للراحل عرفات أن تكون ذكياً وثعلباً في السياسة فقط، بل الأهم من ذلك أن تنفذ ما يطلبه أبو عمار ، وأن تكون "مطيعا". الراحل أبو داوود أحد مؤسسي حركة فتح قال لي ذات يوم مبتسماً خلال لقاء لي معه في عمان وكان الحديث يدور عن الراحل عرفات:" من قال لك أن أبي عمار لا يوجد عنده أولاد ، فصائب عريقات إبنه المدلل".
كان الراحل صائب عريقات "عاشق مفاوضات" لا يعرف طعم النوم بدون هذه الكلمة. كان يعرف تماماً بقرارة نفسه أن هذه المفاوضات التي عشقها قد فرضت عليه تكملة المشوار، رغم معرفته التامة مسبقاً بأن المفاوضات هي (Hopeless) يعني لا جدوى منها وهي تجري على طريقة " خض المي هي مي".
عريقات وبحكم معرفتي به، كان رحب الصدر ولا يبدي أي انزعاج من انتقاد موجه إليه حتى لو كان بطريقة السخرية: كنت ذات يوم جالساً مع مسؤول فلسطيني في أحد مطاعم رام الله وكان برفقتي وفداً ألمانياً من حزب الخضر، فدخل الراحل عريقات إلى المطعم وبعد أن حيانا قال مازحاً: " على شو بتتآمروا" فأجبته :" ما تغلط يا أخ أبو علي إحنا منتفاوض، وإذا المفالوضات مؤامرة في عندك مشكلة". فابتسم وذهب.
الراحل صائب عريقات والحق يقال، أنه كان سياسياً نقياً ورجلاً نظيفاً لم يدخل نادي الفاسدين مالياً وأخلاقياً، ولم تكن له أي "عداوة شخصية" مع أي أحد من القادة الفلسطينيين وكان يحظى بثقة الجميع. هذا الأكاديمي والصحفي الذي حمل فيما بعد لقب ( كبير المفاوضين) كان يعرف تماماً أن الأمثال الشعبية ليست كلها صحيحة. فالمثل الذي يقول : "كل الطرق بتوصل عالطاحونة" ليس صحيحاً من ناحية سياسبة. فحمل لقب (كبير المفاوضين) لا يتم عبر كل الطرق إنما فقط عبر طريق ياسر عرفات أولاً وقبل كل شيء. وبدونه (ما بصير شي). ولذلك عرف منذ البداية وبطريقة ذكية (من أين تؤكل الكتف) فأتقن دور "التلميذ النجيب المطيع" للرئيس والمنفذ السريع جداً لكل أوامر(الختيار) الأمر الذي جعله يفوز بثقته.
وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة سوزان رايس قالت ذات يوم:" لا توجد صداقات أمريكية بل توجد مصالح أمريكية ومصلحة أمريكا فوق الجميع" لكن الراحل صائب عريقات سبقها في هذا الرأي قبل أعوام كثيرة عندما كان كاتب عمود في صحيفة القدس الفلسطينية لمدة 12 عاما إذ قال في مقال له:" أن "المصالح هي التي تحرك الشعوب وأن التحدث بلغة المصالح هو سبيل شعبه لانتزاع وطن تاه طويلا وهو يبحث عنه" وبما أنه يؤمن بالمفاوضات فهو الذي قال "لا يوجد حل عسكري للصراع مع إسرائيل، وأن السبيل لإنهاء هذا الصراع هو المفاوضات".

رحل صائب عريقات رجل المفاوضات والأسرار الرئاسية، وهو مثقل بما يحمله من ملفات مفاوضات، رحل عاشق مفاوضات أراد منها أن تثمر دولة فلسطينية، فأثمرت مزيداً ومزيداً من الإستيطان والإستيلاء على الأرض الفلسطينية. نم قرير العين يا أبا علي، لأن خليفتك في المفاوضات، لن يكون أبداً أفضل منك لأن النتيجة واحدة. " خض المي هي مي"، رحمك الله.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة