في الصراعات الكبيرة والطويلة بين الأمم هنالك إلي جانب الصراع الميداني أو العسكري وبموازاته تماما، صراع حضاري أو ثقافي هو الذي يقرر في نهاية المطاف من هو المنتصر. فالسيف والرمح قديما والدبابة والطائرة حديثاً، غير كافية لحسم هذا النوع من الصراعات الطويلة والعقائدية.
ما يجري في هذه البقعة الجغرافية المقدسة من العالم والتي تسمى فلسطين هو صراع بين من عاش في هذه البقعة وولد فيها وبين من عاش وولد في مكان آخر وجاء ليقول له هذه البقعة كانت لي في يوم من الأيام فالرجاء أن تبحث لك عن مكان آخر وتعيدها لي.
من عاش اعتمد على ارتباطه البيولوجي بهذه الأرض، ومن جاء اعتمد على مشروع علمي مدروس ومنسق تم من خلاله تعبئة الفرد القادم إلى هذه البلاد أيدلوجياً ومعنوياً وماديا وتجنيد كل الأقوياء في العالم لنصرته ودعمه.
أما من عاش في هذه البلاد فقد ظل دون برنامج ودون أي مخطط لمواجهة من جاء مسلحاً بالمال والأيديلوجيا والمشروع المدروس والمخطط بأدق تفاصيله.
في اللحظة المناسبة وحسب برنامج القادم حدثت الحرب فخسرها المقيم في أرضه وبيته. وحسب الخطة التي أعدها القادم وبالتعاون مع الزعامات العربية تم ترحيل هذا المقيم المرتبط بالأرض بيولوجياً.
استمر الصراع غير المتكافئ ومرة أخرى خسر المُرحّل ورُحّل مرة أخري تمهيداً لجره إلى اتفاقيات أوسلو بمساعدة قيادات من يسمونهم عرب الداخل أو الفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل ولم يرحلوا.
عندما وقًع ياسر عرفات على اتفاقيات اوسلو كان يعرف انه يوقع على اتفاقية ليس فيها أي برنامج أو مسار يحدد بوضوح زمني وعملي كيفية إقامة دولة فلسطينية. لكنه وقع وربما كان يعتقد أنه بدهائه ومكره سيستطيع الحصول على تلك الدولة.
لكنه سرعان ما عرف انه وقع في خطأ كبير أوصله إلى مصيدة نصبها له الإسرائيلي بمساعدة قيادات من عرب الداخل.
ياسر عرفات لم يحاسب على خطأه كأي زعيم عربي. وإنما ظل الرمز والقائد والقدوة وهنا بدأت الهزيمة الحقيقية التي سيتولى فصولها وريثه المتحمس جداً لوراثته والذي كان ينتظر موته بفارغ الصبر محمود عباس.
المفاوضات العبثية التي بدأها ياسر عرفات لم توصل إلى أي نتيجة ولو بسيطة. ويومها كان عليه أن يتنحى ذوقيا وأخلاقياً لكنه لم يفعل وبقي في السلطة حتى مات أو قُتل.
المفاوضات العبثية لم تتوقف وجاءت سلطة محمود عباس وواصلتها واستمرت فيها لسنوات طويلة وطويلة جداً دون أي تقدم ودون أي انجاز ولو بسيط أو وهمي. خلال هذه السنوات كان بناء المستوطنات في المناطق التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية يجري على قدم وساق وبوتيرة متسارعة جداً وتحت بصر وسمع أبو مازن وزمرته. حتى تم بناء مئات القرى والمدن اليهودية وآلاف الوحدات السكنية في مناطق الدولة الفلسطينية العتيدة.
وفي زمن المفاوضات تم الإعلان عن القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل وتم نقل السفارات إليها وتطويقها بالمدن الإسرائيلية وفصلها كلياً عن الضفة الغربية. وظل أبو مازن القائد والمناضل والرئيس والرمز لدولة وهمية لم يعد من الممكن إقامتها حتى لو توفرت النوايا الحسنة.
في الطرف الآخر رابين كان من مؤسسي إسرائيل وكان له دور أساسي في إقامتها وبنائها لكنهم حاسبوه وحتى قتلوه لاعتقادهم انه أخطأ.
ومنذ وفاة ياسر عرفات في 11 نوفمبر 2004 وعلى مدار أكثر من 16 سنة وأبو مازن يتولى السلطة ويرتكب الأخطاء والموبقات دون حسيب ولا رقيب. ودون انتخابات ولا حتى تخويل.
في هذه الفترة تغير في إسرائيل ثلاث رؤساء حكومات وجرت انتخابات عامة تسع مرات.
الرئيس في إسرائيل يُحاسب ويراقب ويشتم في الإعلام وفي الشارع رغم انه يبذل قصارى جهده لبناء الدولة وخدمة مواطنيها. وعلى بعد أمتار ترتكب السلطة من الأخطاء والفساد ما لا يمكن حصره ولا أحد يذكر ذلك أو يتحدث عنه.
المواطن في إسرائيل هو كل شيء والرئيس والحكومة والموظف جميعهم في خدمته وعلى بعد أمتار الرئيس وزمرته هم كل شيء يفعلون ما يحلو لهم ينهبون ويخطئون والمواطن يموت من الجوع ويزج به في السجون ليفوق عدد من تسجنهم سلطة عباس عدد من يسجنهم الاحتلال.
إسرائيل تكرم الأدباء والفنانين الذين ساهم إنتاجهم في توطيد أركانها وساهم في خدمتها، وعلى بعد أمتار تكرم السلطة صعاليكها ومروجيها من المنافقين وتحاصر الشرفاء المبدعين.
تجربة السلطة الفلسطينية شوهت الحلم الفلسطيني وجعلت المواطن البسيط يقول: "إذا كانت هذه هي الدولة فلا نريدها".
لماذا لا تتعلم السلطة الفلسطينية من السلطة الإسرائيلية؟ تخدمها وتتعاون معها ولكنها لا تتعلم منها لأنها تؤمن أن المواطن الفلسطيني يختلف عن المواطن الإسرائيلي وحتى عن المستوطن. فهو أي الفلسطيني أقل شأنا منه أي الإسرائيلي ولا يستحق ما يستحقه. لذلك هذه السلطة تحرس المستوطن وتقمع الفلسطيني.
على ماذا يختلف الفلسطينيون إذن؟ أليس على الكرسي الذي ليس كرسي.؟ أليس على الرئاسة التي ليست رئاسة؟ كيف بكل وقاحة يتشبث زلم سلطة عباس بمواقعهم لأكثر من ثلاثين عاما لم يحققوا خلالها أي انجاز على أرض الواقع سوى الشعارات والوعود والكلمات التي لا معنى لها ؟ كيف لا يُحاسَب هؤلاء؟ وهم من ساهم في دفن حل الدولتين وقبر أي فرصة لتحقيق ذلك؟
حلم الفلسطيني العادي اليوم هو ليس دولة وإنما الحصول على تصريح للعمل عند الإسرائيلي.
أليست هذه بداية الهزيمة الفلسطينية التي حققتها سلطة أوسلو التي تحرس الاحتلال وترعى المستوطنين مقابل أجر شهري وتدوس على رأس كل فلسطيني يرفع رأسه؟.
من سيهزم الفلسطيني ليس الاحتلال ودباباته وطائراته وإنما السلطة بطواغيتها ومنتفعيها من الدجالين المحتالين الذين يجيدون الكذب والخداع والذين يسمون الأشياء بغير أسمائها فالخيانة في قاموسهم وطنية والعبث انجاز والتسليم صمود.
***
حسين فاعور الساعدي
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com