مع اقترابه من طرف الشارع الرئيسي في الجزء المؤدي إلى الساحة الرئيسية، إلى "الحارة" كما كان يسميها في طفولته، وما زال الكثيرون يسمونها كذلك، يطالعه طيف الجالس على الكرسي الموضوع في الزاوية الشمالية الشرقية من المساحة المسقوفة في مقدمة مطعم اليافاوي. ومع التقدم يتضح الطيف عن جسم بملامح تتجلى شيئاً فشيئاً بحيث يستطيع أن يتعرف على هوية الجالس في هذه الزاوية. مع تمدد إقامته الجبرية، التي فرضها الاحتلال، في البلدة الصغيرة صار يعرف من الجالس على ذلك الكرسي من مسافة أبعد وأبعد. الآن يستطيع أن يعرف هوية الجالس على ذلك الكرسي بمجرد وضع قدمه على بداية انفتاح الشارع على استقامته عند ساحة وقوف سيارات الأجرة.
في هذا الوقت من النهار بين الضحى والظهيرة، في أيام العمل، يكون المقعد محجوزاً للرجال الذين لا يعملون. تبرز صورة الواحد من الجالسين فتفتح الذكريات التي تعيد له صورهم أيام طفولته. يتذكر الواحد منهم بصورة مهيبة كانت تجعله يراه في عين طفولته طويلاً أكثر وعريضاً أكثر، ويأمل أن يرى والده يوماً يجلس على هذا الكرسي كواحد منهم، والده المزارع الدائم العمل الذي لا وقت لديه للجلوس في المقاهي. أبو صبحي كان أحد هؤلاء الرجال. يتذكر صورته القديمة بنظارته الطببية ويتذكر طريقة حديثه وقنبازه ومعطفه الثلثيني الذي تظهر من جيبه الصدري الخارجي ثلاثة أقلام، كان منظرها يترك في نفسه أثراً كبيراً، فيقول لنفسه "هذا رجل مهم وفهيم". ومنذ إقامته الجبرية في البلدة كان يمر بأبي صبحي على الكرسي ذاته فيطرح عليه السلام ويستمع للرد دون أن يسمع منه دعوة للجلوس كعادة الآخرين. وفي أغلب الأيام يجد أبو عدنان يجلس في مقعده عند جدار المبنى المقابل مستخدماً جدار المبنى مسنداً لظهره واضعاً ساقاً على ساق يدخن سجائره البلدية ويحتسي كاسة الشاي الثقيل التي يحضرها صبي المطعم إلى حيث يجلس. يطرح عليه السلام ويتلقى الرد مع دعوة يستجيب لها مسروراً، فيجلس معه ويتبادلان أحاديث كثيرة. الرجل الستيني لا يخاف من طرق أحاديث السياسة مع الشاب الثلاثيني الخاضع للإقامة الجبرية في بلدته محروماً من الوصول إلى عمله في المدينة.
ما أن انعطف نحو ساحة موقف السيارات حتى تذكر ما حدثه به أبو عدنان قبل أسبوع. صارحه أبو عدنان عما دار بينه وبين أبي صبحي. قال له "الرجل يستغرب من جرأتي بالجلوس معك والحديث معك أمام الملأ، ويستغرب أكثر أنني أزيدها وأصرّ على دعوتك لنشرب الشاي معاً، إنه يعتقد أن أسداً بداخلي حتى أستطيع عمل ذلك"، وأضاف أن الرجل قال "أنه لولا الحرام والحلال فإنه يخاف أن يرد عليك السلام حين تمر عنه وتحييه". ضحك الشاب الثلاثيني والرجل الستيني يومها طويلاً على الخوف الذي استوطن في قلوب أمثال أبي صبحي، وعلق الشاب تعليقاً مؤدلجاً على الحديث قبل أن يستأذن ليمضي في جولته الصباحية في شوارع القرية، التي أصبحت سجنه منذ فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها، "هذا هو الخطر الحقيقي أن نصل إلى الاعتقاد بأنهم يعرفون عنا حتى أنفاسنا ويستطيعون عدّها".
قطع ساحة سيارات الأجرة وظهرت الزاوية إياها، اتضحت الملامح. ملامح غريبة، أبو صبحي على الكرسي، إنه ما غيره. طيف الرجل الجالس على الكرسي لم يولّد صورة الهيبة المعتادة. الرجل الجالس على الكرسي حاسر الرأس، بملابسه الداخلية الطويلة دون "القنباز" أو المعطف ذي الأقلام الثلاثة. ما أن اقترب حتى رأى الرجل الجالس على الكرسي ينهض ويترك الكرسي وينزل إلى الشارع، يضرب الهواء بيديه بقوة طارداً عن رأسه أسراباً من الذباب والصمل ويركض هارباً. لا أحد من الجالسين على البسطة الاسمنتية للمقهى يتقدم لنجدته. الجالسون على البسطة الإسمنتية الشمالية للمقهى المقابل لا يأبهون بما يدور حولهم. أبو صبحي يفرّ باتجاه الجنوب وأسراب الذباب والصمل تلحق به ولا أحد ينهض عن كرسيه. اقترب من المكان، وأبو صبحي يكاد يختفي خلف الزاوية المؤدية إلى المسجد الكبير مع سحابة الذباب والصمل التي تكبر من خلفه. أبو عدنان يجلس مسنداً ظهره إلى الحائط كالمعتاد والصينية التي تعلوها كاسة الشاي الثقيل أمامه والسيجارة بيده غير عابئ بالمنظر.
في منتصف الساحة رأى معطفاً مغبراً ملقى على الأرض، تقدم ورفع المعطف الفاخر، سحب الأقلام من الجيب الخارجي، تفاجأ، كانت أغطية أقلام ليس إلاّ.