يُقدّم الكاتب والشاعر الفرنسي خالد الذكر الفونس دي لامارتين (21 تشرين الاول 1790 - 28 شباط 1869)، في روايتيه الهامتين، "جرزيلا"، أولا، و"رفائيل" لاحقا، رؤية دافئة للحب الإنساني الراقي، يزيد في أهمية ما يقدمه.. وفي قيمتهِ أيضًا، انه اعتمد في كتابته هاتين الروايتين على تجربته الذاتية.. تلك التجربة التي ابتدأت سخونتُها تزداد رويدًا رويدًا حتى انتهت إلى جمرة، تحرقُ اليدَ وتشعلُ الروح.. بنار الفقد والحرمان، من اجمل ما خلق الله.. المحبة على هذه الارض.
لامارتين شاعر فرنسي عُرف بأنه من أهم شعراء الحب والرومانسية، ولد في مدينة لاكان الفرنسية عام 1790 ورحل من عالمنا عن عمر ناهز التاسعة والسبعين عامًا. كتب الشعر وله فيه عددٌ من المجموعات أهمها " التأملات"، كما كتب الرواية وله فيها روايتان كما سلف، تحدّث فيهما عن حبه المتقد المشبوب.
سبق وقرأت هاتين الروايتين وعاودتني الرغبة في قراءتهما مؤخّرًا، فقمت بقراءتهما واحدةً اثر الأخرى. ابتدأت بقراءة الرواية الأولى "جرزيلا"، بترجمة إبراهيم النجّار، وقد صدرت في أواسط الثلاثينيات، بعدها قرأتُ رواية "رفائيل"، بترجمة احمد حسن الزيات، عِلمًا ان مجيد غصن قام بترجمة هذه الرواية مجدّدًا، وقد قدّمتُ قبل فترة، محاضرة عنها في المعهد الفرنسي في مدينتي الناصرة، قارنت فيها بين الترجمتين. فرأيت أن الزيات قدم ترجمة اعتمد فيها على تمثُّل الحالة اللغوية الروائية وقام بعدها بتعريبها، وكأنما هي كُتبت بلغةٍ عربية جزلة، في حين كانت ترجمة مجيد غصن اقرب ما تكون إلى النصّ المترجم المتّبع حاليًا فيما يقوم آخرون بترجمته من لغات أخرى إلى لغتنا العربية.
يَتّبع لامارتين في كتابته لكل من هاتين الروايتين أسلوبًا مميّزًا يركّز على التطوّر البطيء للحدث، لكن الغني في تفاصيله ووصفهِ للمشاعر، لهذا ليس من السهل تلخيصهما، أما فيّما يتعلّق بالحدث الروائي ذاته فإن مؤلّفهما، يحكي في جزيلا عن رحلة الى إيطاليا، قام بها أيام شبابه الاول، وتعرّف خلال رحلته هذه على جزيلا، ابنة الصياد الفقير، التي ستقع في هواه، بسبب طيبته وايجابيته في التعامل معها ومع عائلتها، وبسبب انسانيته الدفّاقة. تتعلّق جرزيلا بالراوي، مع علمها انه لن يرتبط بها لبُعد الشقّةِ بينَ عائلته الغنيةِ وعائلتها الفقيرة. وتنتهي الرواية نهايةً محزنة مؤسية تتمثّلُ في الفراق الابديّ بين اثنين، رجلِ وامرأةٍ، كان بالإمكان ان يعيشا قصةّ حبٍّ فريدةٍ من نوعِها. لكن بدلَ ان تنتهي هذه القصة إلى التواصل والوصال، تنتهي بالفراق، لهذا تحقّق نوعًا من خلود .. أمُه الشوقُ وأبوه التوقُ الابدي.~
في روايته الثانية" رفائيل"، واذكر بالمناسبة ان طبعةً منها صدرت في بلادنا، قبل العشرات من السنين، وقُيّض لي ان اطلع عليها في حينها وان اقرأها، فإن الحدثَ الرئيسيّ فيها لا يفترقُ كثيرًا عن الحدث الرئيسي في جرزيلا، فهي تحكي قصةَ حبٍّ ملتهبٍ بينَ شخصيةٍ عظيمة يقوم بتقمّصِها، والتعامل معها على اعتبار انها قناعٌ روائي، هي شخصيةُ الفنّان العالمي العظيم، رفائيل، وبين امرأةٍ قست عليها الحياةُ فأفقدتها الامَ والأب، والقت بها في ميتمٍ للأطفال في ضائقة. في هذا الميتم، او الملجأ، تتعرّف على واحد من رجال العلم يكبرُها بخمسة اضعافِ عمرها، كما تُخبر رفائيل في بداية تعرّف كلٍّ منهما على الآخر، هذا الرجل لا يهمه شيءٌ سوى سعادتها. وعندما يشعر بضيقها الذي سرعان ما يتحول إلى معاناة صحية، يرسل بها لتقيم في بلدة سافوا الفرنسية، وهناك يلمحُها رفائيل، القادم من باريس العاصمة، ويأخذ في تحيّن الفرصةَ للقاء بها. القدر لا يبخل عليه بهذا اللقاء المتمنّى، فيتصادف ان تواجه عاصفة قاربًا يقلُّها، فما يكون من رفائيل إلا أن ينقذها. هاتان الشخصيتان، يقع كلٌّ منهما في هوى الآخر. وتتطوّر الاحدث إلى أن تقوم تلك المرأة المحبوبة بإبعاده عنها، بادعاءٍ تلفّقُه، ليتبيّن لنا، نحنُ القراءَ في نهاية الرواية، انها إنما أبعدته عن معاناتها في ايامها الأخيرة وتقضي هذه الحبيبةُ ليعيش رفائيل مأساةَ حياته بفقدهِ الفادحِ لها.
كما قلت في كل من هاتين الروايتين، مواقف تسمو فيها أحاسيسُ كلٍّ من العاشقين المدنفين المتيّمين، إلى آفاقٍ عاليةٍ شاهقة. تبحر في آفاق الإنسانية العامة، وتقدمان كما سلف صورًا مُبهرةٍ للحبّ الرومانسيّ الطاهر الحنون. روايتان تدفعان من يقرأهما لأن يتفاعل مع احداثِهما، وكأنها تقع الآن وهنا.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com