تعيدنا رواية "رحلة الهامي الى الموت"، للكاتب اليوغسلافي رشاد قاضيتش، الى فترة تاريخية عصيبة من التاريخ الوغسلافي في منطقة البوسنة والهرسك خاصة، وتقدّم صورةً للشيخ الشاعر المسلم التقي النقي، ما يذكرنا بشخصية جان فالجان المليء بالقيم العليا والايمان المسيحي الحقيقي، في رواية البؤساء للكاتب الفرنسي ذائع الصيت فيكتور هيجو.
صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية بعد ان قام الدكتور جمال الدين سيد احمد، بنقلها الى العربية، عن دار سعاد الصباح عام 1993، ولعلّ هذه مناسب للإشادة بهذه الدار وبدورها الرائع الذي قامت به في رفد الادب العربي بروائع من الآداب الاجنبية المترجمة، وبروائع من ادبنا العربي ايضا، ومن المؤسف ان تتوقّف دار نشر بهذه العظمة وهذا الالق، لتكف عن عطائها الثرّ ولتختفي بالتالي تاركةً افضل الاثار والذكريات، اما صاحب هذه الرواية رشاد قاضيتش فانه من ابناء العاصمة اليوغسلافية سراييفو، وقد ولد عام 1912، وابتدأ حياته الادبية وهو لمّا يزل على مقاعد الدراسة وكان نتاجه الاول في الادبيات الدينية فكتب قصيدة اشتُهرت وطُبعت في بلاده اكثر من عشر مرات في مدح الرسول العربي. عمل في الصحافة ردحًا مديدًا من عمره.
صدر له عددٌ من الروايات حملت اولاها عنوان " الرسالة الاخيرة لباشيسكي"، تلتها رواية حملت عنوان " الحاج لويو"، وفاجأ قراءه بين عامي 1960 و1070 بإصداره عشر روايات من ادب الخيال العلمي، وتُعتبر روايته " رحلة الهامي إلى الموت" التي نتحدث عنها، من اشهر رواياته وقد استلهمها من احداث التاريخ الماضية، واسسها على شخصية تاريخية معروفة في بلاده عاشت ذاتها بصدق وواجهت مصيرها المؤسي بسبب قصيدة احتجاجية نقدية، وجهت فيها سهام نقدها الى مستعمري بلادها من الاتراك، علمًا ان هؤلاء حكموا تلك البلاد منذ بداية القرن الخامس عشر حتى اواخر القرن التاسع عشر، واتصف حكمهم بالفظاظة والقسوة، وهو ما يتطرّق اليه كاتبُنا في العديد من المواقف والاحداث في روايته هذه.
الهامي هو إمام مسجد يكتب قصيدة يصف فيها ما رسفت فيه بلاده من ظلم الاتراك يقول فيها:
حل زمانٌ غريب/ اصبح كل شيء شرًا/ ماذا نتوقّع بالله عليكم؟
لقد تلاشت الطاقة/ اصبح كل شيء سيئًا/ اختفى الناس الطيبون/ ماذا نودّ بالله عليكم؟
ليس هناك عملٌ للتركي/ فقد طمس الظلم العدل/ وأبيدت العدالة.
تبلغ اخبار هذه القصيدة الحريفة مسامعَ الوالي التركي ويُدعى الجيلالي، فيبعث في طلب الهامي، فما يكون من هذا إلا ان يستجيب لدعوته فيسعى إليه في بلدته البعيدة، وهو يعرف انه سيلاقي هناك حتفه. يشرع الهامي في رحلته ويتعرّض لأحداث تُرينا كم هو رجلٌ طيب وانسان منزّه ويمكن اعتباره قدوةً طيبةً لكل من يعرفه ويلتقي به، حتى انه يعطف على كل من يلتقي به، فيقدّم الطعام لكلبةٍ تلد ويوصي من يلتقي بهم من الغجر بها خيرًا، ويقدّم جبّته الجديدة نوعًا ما مستبدلًا اياها عن طيب خاطر ومحبة في العطاء مع امام اخر يلتقي به وينزل ضيفًا معزّزًا مكرّمًا عنده. الرواية حافلة بالكرامات الانسانية التي تذكّرنا بالأتقياء والصدّيقين وتعيد مآثرهم الانسانية الصغيرة في حجمها الكبيرة في معناها الانساني، واعتقد ان هذا أحد اسباب إقبال القرّاء عليها، اضافة إلى ان الرواية مكتوبة بقوة تخييلية تخلق زمنها الروائي وبالتالي احداثَها الخاصة بها.
حتى عندما يصل الهامي ويقف في حضرة الجيلالي فانه يرفض شفقته عليه ويصرّ على احقيته في قول رأيه في وجه الوالي الظالم، ومن وقف وراءه في العاصمة التركية، المقصود الامبراطور التركي تحديدًا. اللقاء بين الاثنين الهامي والجيلالي يرينا كم هو قوي من يعتقد أن الحق إلى جانبه وكم هو ضعيفٌ من ينفّذ الاوامر فحسب. وتنتهي الرواية بأن يتمّ اعدامُ الهامي لينضم إلى قائمة الاتقياء والصدّيقين، في حين يلقى الوالي الجيلالي مصيره المتوقّع فيموت شرّ ميتة، وسط اعتقاد البعض أنه إما انتحر او مات مسمومًا.
اللافت في هذه الرواية، إضافةً إلى ما سبق وقيل، هو هذا الاصرار على الحقّ والايمان به عملًا لا قولًا فحسب، وما يثير الاعجاب بشخصية الهامي هو هذا الايمان العميق بعدالة قضيته، والجرأة في مواجهة قدره ومصيره، ذلك ان اكثر من فرصة للنجاة تتوفر للهامي خلال رحلته إلى الموت، إلا أنه يرفض أن يفر ويفضّل المواجهة، بالضبط كما فعل سقراط عندما فضّل شرب كاس السم وما فرّ.. ليتحوّل إلى ايقونة يفاخر شعبه بها ويرفعها عاليًا كلّما لحقت به المصائبُ وحاقت به المحن.
" رحلة الهامي إلى الموت"، رواية ادبية ترقى إلى مستوى إنسانيٍّ رفيع.. ويمكن قراءتُها في كل زمانٍ ومكان، مع أنها استمدّت أحداثها الأساسية من حادثةٍ واقعية.. فقد مكّنها التخييل الخلّاق من دخول ملكوت الرواية باقتدارٍ ودراية.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com