ليس من السهل على الدول تحقيق مستويات متقدمة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. فقد يعتقد البعض أن التنمية تحصيل حاصل، وأن استقلال الدول هو الأساس وهو المهم، وكل شيء بما فيها التنمية تأتي لاحقا. إلا أن هذا المفهوم بدأ يتغير في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأت العديد من دول العالم وخاصة في أوروبا بإعطاء موضوع التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأولوية على السياسة والاستقلال الاقتصادي. ولهذا استطاعت العديد من الدول الأوروبية التنازل عن عملاتها التاريخية مثل فرنسا التي تنازلت عن الفرانك الفرنسي وكذلك ألمانيا التي تنازلت عن المارك الألماني، وتحولت إلى عملة واحدة هي اليورو. وتنازلت الدول الأوروبية عن عدة أمور وأهمها حدودها الجغرافية السياسية من أجل تطوير اقتصادها والانفتاح على الدول الأوروبية الأخرى في جميع المجالات.
إنّ فكرة العَلَم والحدود أصبحت من الماضي، والمستقبل واضح بلا أعلام وبلا حدود، وعلى دول العالم الثالث التفكير جديا بهذه الرؤية الاستراتيجية إذا أرادت أن تخرج من الخندق التي تخندقت به وحشرت نفسها وشعبها فيه. الماضي أليم بكل ما فيه من تخلف وجهل وعنترات فاضية وشكليات لها أول وليس لها آخر. ولم تعد الشعارات الفارغة من المضمون والخطابات الرنانة تقنع الشعوب التي تسعى إلى حياة أفضل ومستويات دخل أعلى وإلى خدمات صحية وتعليمية ذات جودة عالية. ومع الانفتاح العالمي وانتشار الفضائيات والانترنت، لم يعد من السهل على الحكومات أن تمنع شعوبها من الاطلاع على ما يجري في العالم من انفتاح وتكنولوجيا وتقدم اقتصادي واجتماعي وفي مجال الصحة والتعليم والبيئة. لم يعد من الممكن على الحكومات أن تكذب على شعوبها لفترة طويلة. إلا أن هناك حكومات كثيرة في إفريقيا وفي العالم العربي وآسيا ما زالت تكذب على شعوبها تحت مبررات عديدة مثل الوطنية. فالدكتاتوريات الإفريقية والعربية تحكم شعوبها بالحديد والنار، ولا توفر لهم الاستقرار ولا التنمية ولا الحريات ولا الكرامة الإنسانية التي هي أسس قيام الدولة المدنية الحديثة.
ولا يكفي أن نقول أننا نريد دولة إسلامية أو نريد دولة وطنية أو اشتراكية أو قومية، لأن المهم ليس اسم الدولة أو كنيتها أو صفتها بل المهم ما تقوم به من سياسات داخلية وخارجية لمصلحة شعوبها. فهناك الكثير من الأيديولوجيين الذين يعتقدون أنّ إدارة شؤون السياسة هو أمر سهل، وأنهم إذا وصلوا للحكم يستطيعون بسهولة إدارة السياسة والاقتصاد بالفهلوة والاجتهاد. وهذا بالضبط ما حصل مع الإخوان المسلمين في مصر وفي عدد من الدول العربية، حيث تم تأسيس هذه الحركة الدعوية من أجل الوصول للحكم في الدول العربية واستلام السلطة والقيادة. وقد نجح الإخوان المسلمون في الوصول إلى السلطة في مصر بعد الربيع العربي ولكنهم لم يحسنوا صنعا في السياسة والاقتصاد وباقي شؤون الدولة. صحيح أنهم لم يأخذوا فرصتهم الكاملة، إلا أنّ البوادر كانت غير مشجعة إطلاقا وبدأوا بخلط الدين بالسياسة كما كان متوقعاً وخلطوا الحابل بالنابل والغيبي بالواقع.
أن تكون في المعارضة شيء، وأن تصبح في دفة قيادة الحكم شيء آخر. وهذا ما حصل مع حركة حماس أيضاً في قطاع غزة. فقد كان من السهل عليها وهي في المعارضة أن تكيل الاتهامات والانتقادات لحركة فتح التي كانت تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة حتى 2007. أما بعد أن استملت حماس قطاع غزة وأساءت إدارة السياسة الداخلية والخارجية قلبت قطاع غزة خلال حكمها إلى منطقة منكوبة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا. ولا أحد ينكر أنها تصدت للاحتلال الإسرائيلي وواجهته بعنفوان وصبر كبير، إلا أن الشعب في قطاع غزة يريد نتائج ويريد أن يعيش، فالحروب لا تخاض من أجل الحروب والاستعراضات بل من أجل التحرر وحياة أفضل. وحماس لم تأتي بحياة أفضل لقطاع غزة، بل جعلته فقيراً منكوبا وسجناً كبيرا. حماس حركة إسلامية وصلت إلى الحكم وكان بإمكانها إدارة السياسة والمقاومة والحكم بشكل مختلف كليا من خلال تحالفات دولية قوية تفرض على المحتل أن يفك حصاره من ثاني يوم. ولكن حماس ضربت رأسها في الحيط وقضت على أي فرصة لحياة كريمة في قطاع غزة حتى أنها لم تشرك في حكمها أبناء شعبها من حركات التحرر الوطنية. إنّ المواطن الغزي لا يكترث من يحكم القطاع طالما يستطيع أن يحيا حياة كريمة ويتحرك بحرية ويتكلم بحرية ويسافر بحرية. وهكذا الحال في جميع الدول العربية. فالشعوب العربية الثائرة منذ انطلاق الربيع العربي رفعت شعارات "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" في جميع الدول العربية، ولم ترفع شعارات "إسلامية" أو "قومية" أو "اشتراكية".
إنّ أي حزب سياسي عربي مهما كان يحمل من فكر أو أيديولوجيا، يريد أن يصل إلى الحكم والدولة، عليه أن يعلم أن السياسة ليست لهوا ولعبا، وأن الموضوع مرتبط بحياة الناس وأمنها ولقمة عيشها وكرامتها وحرياتها. فلا تكفي الشعارات والوعود البرّاقة، مهما كانت جميلة وجذابة، بل يجب أن يكون لتلك الأحزاب رؤيا واقعية عملية لإدارة شؤون الدولة والمواطنين وتحسين ظروف حياتهم ومعيشتهم ورفاهيتهم. فلا تجدي التبريرات، وغير مقبول أن تعادي العالم وتجلب الحروب والدمار وتدّعي أنها تقاوم وتحارب الأعداء. فالشعوب تريد الاستقرار والأمن أولاً حتى لا تتعرض حياتها للخطر والتفجيرات والحروب، ومن ثم تريد أن تكون قادرة على كسب قوتها ورزقها بعزة وكرامة بعيداً عن العوز والذل والفقر. و كذلك تريد الشعوب أنظمة تعليمية وصحية لها ولأبنائها ولا تريد أن تموت في الطرقات أو بسبب عدم القدرة على فاتورة المستشفيات. وتريد أن تستنشق الحرية، ولا تخاف من المخابرات وأقبية السجون كلما أرادت التفوه بكلمة أو التعبير عن رأي أو المشاركة في مظاهرة لأمر ما يهمها ويهم مستقبل أولادها. يجب أن تكون الحكومة والدولة مؤسسة خدماتية تنموية وليس مؤسسة تستعبد شعبها وترهبهم وتتحكم بمصائر الناس وارزاقهم. هذا هو المفهوم الجديد للدولة الحديثة، وهذه هي أركان الدولة المدنية الديمقراطية.