بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الفنّان رائد أبو زهرة: "طوبى لكل نبض يمكننا من عمق الخجل في روحنا. أمام شموخهن، لندرك أكثر كم علينا أن نفيق أكثر. وننتبه أكثر. شكرا يا نبض البوصلة جميعكم" .
وعقّبّت الأديبة الجليليّة أسمهان خلايلة: "رغم ادعائي الصمود والقوة فإنني أغالب الدمع وأنا أتابع الفتية والفتيات وكل سجين حرموه متعة الحرية والتعلم... يا الهي رحمتك".
تحيّة عزّ وكرامة من أسيراتنا في سجن الدامون الكرمليّ للأهل في الكلّ الفلسطيني.
"صرتُ معلّمة!"
وصلت سجن الدامون الكرمليّ ظهر الخميس 27.05.21 للقاء أسيرات. انتظرت في غرفة المحامين فأطلّت عليّ خواني تيودورو خوليان رشماوي (إسبانيّة المولد، مواليد 1958) مبتسمة ابتسامة خجولة، التقيتها للمرّة الأولى، تناولَت السمّاعة البغيضة لنبدأ حديثًا شرحه يطول.
حدّثتني عن تطوّعها وعملها في لجان العمل الصحيّ في منطقة بيت لحم، وتعيد على مسامعي بين اللحظة والأخرى: "مش فاهمة ليش أنا هون؟"، فهي معتقلة منذ 13.04.2021، بداية في معبار الشارون للتحقيق والتعذيب الذي مرّت به، دون ذنب اقترفته، ومحاولات الإهانة دون مبرّر، تُعتقل للمرّة الأولى، تعرفّت على إلياس منذ 36 عامًا فتعلّقت به وبفلسطين وربطت مصيرها بهما، وتُطمئن إلياس عَبري أن لا يشعر بالذنب ففلسطين وعشقها السبب في اعتقالها.
تعي خواني جيّدًا أن الهدف من احتجازها محاولة ضرب المؤسسات والدعم العالمي لفلسطين وقضيّتها وأهلها، تنقصها الكتب والصور.. وجاكيت خفيف، ومحرومة من الكانتينا، ولم تلتقِ بمحاميتها منذ اعتقالها! وتحنّ لأولادها ماريا وجورج وزوجها الياس وأهل البلدة، فلم يُسمح لهم بزيارتها منذ الاعتقال.
في السجن تحقّق حلمها وأصبحت معلّمة للغة الإسبانيّة للأسيرات، ويؤلمها أنّ لها زميلات في المعتقل أصغر بكثير من أولادها!
في طريقي عائدًا إلى حيفا حضرت إلى مخيّلتي ورافقتني العزيزة سميرة (إيڤا) حمد (شتّال)، من مواليد 1948 في مدينة جوتنبورج السويديّة، التحقت عام 1974 بالعمل التطوّعي في تلّ الزعتر، تزوّجت من يوسف حمد ابن قرية الخالصة شمال فلسطين، ولم تغادر التل مُذّاك.
"أميرة التحالي"
بعد انتهاء لقائي بخواني في سجن الدامون الكرمليّ أطلّت عليّ شابّة في مقتبل العمر؛ نورهان إبراهيم خضر عواد (مواليد 1999 ومعتقلة منذ 23.11.2015!!) ضاحكة، التقيتها للمرّة الأولى، "مجاكرة بالسجّانة، حسب قولها".
حدّثتني عن تعلّمها الثانويّة العامّة داخل جدران السجن، فاعتقلت وهي طفلة، وها هي تدرس في الجامعة، وتتعلّم الاسبانيّة. حدّثتني بلهفة عن حيفا، تشاهدها عبر التلفزيون، وحلمها أن تتجوّل في شوارعها، وتطلب من الأهل تصوير الكرمل وجماله في كلّ زيارة لها وتزويدها بالصور لترى الكرمل الذي تتنفّسه، وتقول بسخرية سوداويّة: "محبوسين في أحلى محلّ بالدنيا ومحرومين من المنظر".
"تمارضت" كي تجري فحوصات في المستشفى ولسوء حظّها أخذوها لمستشفى الكرمل الحيفاوي فلم تحظ برؤية البحر فيما لو نقلوها لرمبام (شاهدت البحر مرّة واحدة خلال نقلها بالبوسطة من الشارون للدامون!).
تقرأ وتحاول الكتابة، فلديها الكثير الكثير، تغيّرت وكبرت خلف الجدران.
نورهان تقرأ العبريّة، ومن مطالعتها لصحيفة يديعوت أحرونوت المُتاحة تعلمّت صناعة الحلويّات لتصبح "أميرة التحالي" في السجن فاخترعت حلويات وطبخات جديدة، حسب قولها.
سًلبت طفولتها وحُرمت من شبابها لتقضي الأيام خلف القضبان آملة بحُريّة وغدٍ أجمل لفلسطين.. ولها.
"السجن بِعَلِّم!"
بعد انتهاء لقائي بخواني ونورهان في سجن الدامون الكرمليّ أطلّت عليّ شابّة أخرى في مقتبل عمرها؛ ملك محمد يوسف سلمان (مواليد 2000 ومعتقلة منذ 09.02.2016!!) مبتسمة ابتسامة طفوليّة تدلّ على صغر سنّها.
حدّثتني عن تعلّمها للتوجيهي وللجامعة داخل جدران السجن، فاعتقلت وهي طفلة، وها هي تكبر وتتغيّر خلف القضبان، ممّا أفادها الكثير. حدّثتني عن طقوس القراءة خلف القضبان وفخرها أنّها ضمن الطاقم المسئول عن مكتبة السجن والحاجة الماسّة لتزويدها بالكتب.
دخلت السجن قاصرًا وبنَت حياتها، انضمت لدورة كتابة إبداعيّة نظّمتها الأسيرة منى قعدان في السجن وتقول: "بنكتب، بنفرّغ، بنعبّر وبنطلِّع!".
حدّثتني عن حيفا من خلال متابعة التلفزيون، وتشبّثها بالقدس؛ فتتابع برنامج "صباح الخير يا قدس" مع كريستين ريناوي على قناة تلفزيون فلسطين وحلقة "رسائل إلى قمر" حول كتاب الصديق حسام زهدي شاهين ومشاركتي فيها، وتحلم بحلقة خاصّة بها مع إصدار لها ووعدتها بدوري أن أشارك فيها.
حُرمت من الطفولة، لكنّها مؤمنة بالحياة ومتشبِّثة بالأمل والحريّة، وتُبرمج لمستقبل أفضل لها ولشعبها، ومتفائلة بالخير بصحوة شباب الكلّ الفلسطيني.
لكنّ عزيزاتي:خواني، ونورهان وملك أحلى التحيّات، والحريّة لكن ولجميع أسرى الحريّة.
أيار 2021 - حيفا
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com