كان ذاك مجلسًا نصراويًا اصيلًا آخر، انعقد منذ بداياته الاول، بطريقة بسيطة تلقائية وتواصل خلال سنوات وسنوات، لتتوطد خلال مسامراته علاقات، بعض منها تواصل حتى هذه الايام وبعض آخر انتهى بانتهائها، وبانتهاء حياة صاحب المجلس على هذه الارض، مخلّفًا ذكريات وذكريات هيهات ان يمحوها الزمن
في بداية يفاعتنا، في مطالع شبابنا الاول
وشرخها الساخن، تعرّفنا على صاحب المجلس
الانسان اللماح المهذب القارئ المحب للكتب في المجال الروحي حازم وديع زعبي، ابن مدينة يافا الذي عاش جل حياته في ناصرتنا
اول مرة تعرفت عليه تمت في محل التذكاريات السياحية لصاحبها الصديق الراحل الشاعر طه محمد علي، ابن قرية صفورية المهجرة الذي عاش وقضى في الناصرة
وما زلت اتذكر اللحظة الاولى للقاء ابتدأ يومها ولم ينته حتى اليوم الاخير في حياته ( كان عند وفاته في اواسط الخمسينيات من عمره حينها)، اتذكر انه قال لي وكان يكبرني بأكثر من عشرين عاما انه قرأ لي مقالة في احدى الصحف التي كنت اواظب على النشر فيها، وانه يتنبأ لي بمستقبل ادبي زاهر، واضاف يقول انني ابدعت في مقالتي تلك باستعمال كلمة الإئتناس
جرى بعدها حديث بيننا، انقطع ليتواصل في مجالسه الليلية ومسامرات العذبة
ذلك المجلس تشكل رويدا رويدا واتذكر ممن كانوا يترددون عليه دائما او لماما كلا من الاصدقاء: سيمون عيلوطي، ابن عمه جميل عيلوطي، مفلح طبعوني، حمودة سليمان، سهيل كرام، نبيل عودة، خليل حداد، اطال الله في اعمارهم وجودات راشد من الرينة طيب الله ذكراه
اضافة الي انا كاتب هذه السطور
اتصف صاحب هذا المجلس حازم زعبي بالعديد من الصفات، اشير فيما يلي الى ابرزها واهمها وما له علاقة بمجلسه هذا:
1-كان حازم انسانا ودودا محبا للكتب والاصدقاء، وكان معجبا مفتونا بكتاب " الزمان والازل" لولتر ستيس، وكثيرا ما كان يتحدث عن الافاق الفلسفية للدين، غير ناس الحديث عن الدنيا، التي اعتقد انه كان محبا شغوفا بها، او هذا ما كان يشعرني به على الاقل
واذكر انني زودته بالعديد من الكتب التي كان يقدر محبتي لها، منها كتاب "الفتوحات المكية" للمتصوف العربي المعروف علميا ابن عربي
كما انه كان محبا مفتونا بالطرب العربي الاصيل، وقد ذكرت، في كتابة سابقة لي، اللقاء الاخير به قبل وفاته بفترة قصيرة، عندما زرته برفقة الصديقين الريناويين موسى حنا ابراهيم وجودات راشد، وكان يستمع لأغنية "ليلة الوداع" لموسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب، لكن بصوت مغنية من فنانات الزمن الماضي الجميل
ثقافة حازم هذه كثيرا ما كانت تدفعه لان يكون المدير المحرك لنقاشات مجلسه، الامر الذي دفعنا في احيان كثيرة للاستماع اليه اكثر مما كنا نُسمّعه
2-كان حازم محبا شغوفا ايضا بالجدالات الفلسفية واذكر هنا انه كثيرا ما كان يفتح النقاشات في هذا المجال، مع اناس لا شبق لهم بالثقافة واهلها ولا عبق
الامر الذي كان يقرب بينه وبين العديدين، رغم انه كان يناقشهم في غير اهتماماتهم اليومية، ويأخذهم الى افاق يمكنهم الاستغناء عنها، كما كنت اشعر
ولعل السبب في هذه الجدالات يعود الى قراءاته المتعمقة، رغم انه لم يكن متعلما
بقدر ما كان مثقفا
حبه هذا للجدالات جعلنا نحن ضيوف مجلسه، ننشد اليه ولا نكاد نغيب عن مجلسه الا لنعود اليه دنفين مشتاقين
وقد لا ابتعد كثيرا عن محور هذا الحديث وهو عن مجلسه النصراوي(يمكنني ان اطلق عليه اسم مجلس الزعبي)، اذا ما قلت لكم انه كان اشبه ما يكون ربان سفينة والى جانبه عدد من البحارة المفتونين بقصصه وحكاياته
3-كان حازم محبا عاشقا للحياة، ولكل ما تجود به عليه من فرح، وهو لم يرتبط بامرأة، واعتقد ان عدم ارتباطه هذا يعود الى انه كان يود الارتباط بمن مال اليها قلبه واحبها في مدينته الاولى يافا، الا ان يدي النكبة فرقت ما بينهما، لتولى الافراح المحتملة ولتبق الأحزان المقيمة
وربما لهذا لم يمارس حازم عملا منتظما في حياته وكان يكتفي بالعمل في مهنة الحدادة/ الخراطة، التي برع بها، مدة ثلاثة اشهر سنوية ليستمتع بقية شهور السنة بالبطالة التي احبها وارتاح اليها
ما عدا هذا كان حازم اثابه الله سمينا محبا للطعام اعدادا وازدرادا، كما كان كريم النفس والوفادة
شخصية حازم هذه كانت مركز جذب للأصدقاء ولي، ولآخرين من المعارف والضيوف الموسميين من خارج الناصرة اذكر منهم بكثير من المحبة الشاعر عصام العباسي ابن مدينة نابلس الذي عاش في حيفا وقضى في بيت المقدس، وكانت النقاشات والجدالات تندلع بمجرد اللقاء بيننا في مسامرة تبدأ حامية، وتأخذ في التصاعد
اما ماهية تلك النقاشات فقد كانت تتمحور في الفلسفة والسياسة والمجتمع، وكان حازم بارعا في كبح جماحها عندما تتصاعد فيعيدها الى الهدوء الذي سبق عاصفتها
متعقلا مبتسما
رحم الله حازم، فقد وفد مع ابناء اسرته الى الناصرة عام النكبة، وقد عرفتهم جميعا تقريبا في حياتهم، فلنطلب لهم الرحمة في مماتهم، وقد رحل ابناء هذا العائلة واحدا تلو الاخر، مخلفين وراءهم اطيب الذكريات
اما حازم ذاته فقد كان قصة دافئة تفوح برائحة المحبة
الوطن وحلم العودة
الذي لم يتحقق