أحد الصحفيين وجه سؤالاً للرئيس الفلسطيني محمود عباس عن موقفه فيما لو جرت مظاهرة ضده في أراضي السلطة الفلسطينية. فأجابه بتقة كبيرة في نفسه مع قسم، وكأنه وفّر حياة رفاهية وكرامة لشعبه بالقول:" والله لو خرج إثنان فقط يطالبان باستقالتي لن أبقى يوماً واحداً". سيادة رئيس السلطة الفلسطينية الذي يشغل أيضاً مناصب: القائد العام للقوات الفلسطينية ورئيس حركة "فتح" ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، يبدو أنه قال كلامه في الليل لأن كلام الليل يمحوه النهار، لأن مظاهرات جرت ضده ولا يزال جالساً على كرسي الرئاسة.
تصوروا أن رجلاً مثل عباس دخل النصف الثاني من الثمانينات يشغل أهم المناصب الفلسطينية، وكأن الشعب الفلسطيني ولا سيما حركة فتح لا يوجد فيها رجال أكفاء لشغل المناصب الثلاثة الأخرى غير الرئاسة سوى "القائد الملهم" محمود بن عباس الصفدي الذي لا يريد العودة إلى مسقط رأسه صفد.
الأمن الوقائي الفلسطيني هو جهاز أمني داخلي تابع للسلطة الفلسطينية (وأنا هنا أمتنع عن استخدام كلمة الوطنية لأنها بعيدة عنهم وأكتفي بصياغة السلطة الفلسطينية فقط). الجهاز أسسه وترأسه محمد دحلان. ويتميز عمل الجهاز بالسرية ومهامه أمنية داخلية تشمل مكافحة الجرائم الداخلية في عدة مجالات منها مكافحة التجسس ومكافحة الإرهاب. ولم نسمع عن أي عملية تجسس اكتشفها هذا الجهاز. والسبب واضح لأنه ركز عمله بالدرجة الأولى على نشاط المعارضين للرئيس واعتقالهم والتحقيق معهم وإذا تطلب الأمر قتلهم.
يوجد للجهاز سجون للتحقيق بقضايا محتملة قبل حدوثها، ومن هنا جاء تسميته بالوقائي. وجميع أفراده من نشطاء حركة فتح من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، وليسوا من العائدين في الفترة اللاحقة لاتفاقية أوسلو عام 1993 ولا يتم قبول طلبات انتساب للجهاز من الاحزاب الأخرى.
الأجهزة الأمنية الفلسطينية لها سمعة سيئة ذائعة الصيت في الوسط الشعبي الفلسطيني وتاريخها يشهد عى ذلك. محيي الدين الشريف قائد عسكري، يعتبر خليفة يحيى عياش في هندسة المتفجرات. وهو ليس من طينة "فتح" سياسيا. اعتقلته أجهزة الأمن الفلسطينية عام 1998، وتعرض للتعذيب الشديد في سجن جهاز الأمن الوقائي برئاسة جبريل الرجوب آنذاك، مما أدى لبتر ساقه. وفي التاسع والعشرين من شهر مارس/آذار من العام نفسه دوى انفجار في بلدية بيتونيا الصناعية في مدينة رام الله وعلى بعد مئات الأمتار من المقر الرئيسي لجبريل الرجوب، ووجدت جثة محيي الدين الشريف داخل سيارة مشتعلة. وتبين فيما بعد أن جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني وراء عملية الاغتيال. قتلوه لأنه يقلق مضجع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وقتلوا نزار بنات لأنه يزعج الرئيس ومخابرات وأمن السلطة.
لكن تاريخهم يحمل وصمة عار أخرى لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الشعب الفلسطيني. ففي الثاني والعشرين من شهر تموز/آب عام 1987 تعرض ناجي العلي كبير رسامي الكاريكاتير الحر في العالم العربي إلى عملية اغتيال في العاصمة البريطانية لندن، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في التاسع والعشرين من شهر أعسطس/آب من العام نفسه. وقد تبين فيما بعد أن جهازاً أمنياً فلسطينياً وراء عملية الإغتيال. والسبب لأن الراحل كانت يستخدم رسوماته من أجل التغيير السياسي وكشف الفضائح والفساد "المعشعش" داخل السلطة. لم يتحملوا رسوماته فأرادوا التخلص منه بأسلوب همجي إجرامي فأسكتوه برصاصة رست في رأسه.
حتى أنهم ومن شدة حقدهم عليه لم يحققوا وصيته بدفنه بجوار والده في مقبرة مخيم عين الحلوة بالقرب من مدينة صيداء جنوب لبنان، بل تم دفنه في لندن. وقتها كان بإمكان منظمة التحرير نقل جثمانه إلى لبنان لا سيما وأن منظمة التحرير كان لها نفوذاً واسعاً في تلك الفترة.
نزار بنات، كان يكشف باستمرار فضائح النظام الفلسطيني وما أكثرها. كان ناشطاً سياسيا معارضاً لسلطة رام الله. والراحل ناجي العلي كان من أشد المعارضين لنهج منظمة التحرير فعارضه وفضحه برسوماته التي طالت أيضاً كشف المستور الأخلاقي. لا يعرفوا ولا يعترفوا بالرأي الآخر إلا برأيهم. نزار بنات انتقد الأداء السياسي للسلطة الفلسطينية وكشف الفساد والعفن لبعض قياداتها فقرروا قتله بأسلوب بشع، والراحل ناجي العلي لم تتناسب رسوماته الحرة مع نهجهم ورأوا فيها خطراً عليه فأسكتوه. "والحبل عالجرار" ولا نعرف من الضحية القادمة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com