يدخلنا كتاب" رسائل ليست من هذا العصر"*، إلى قصة حب استسلمت عيناها للنوم مدة تجاوزت الستين عاما، بين رجل كاتب شاب في حينها هو المرحوم أنيس رشيد أبو حنا (18- 9 - 1939/21-1- 1989)، من أوائل المحامين العرب بعد قيام إسرائيل، وبين حبيبته " الحبيبة"، كما يدعوها في رسائله إليها جوليا فوزي عازر، من مواليد14-2-1939 رحمها الله، التي ستصبح فيما بعد زوجته ورفيقة دربه.
تعود قصة هذه الرسائل إلى الأعوام الواقعة بين 1957 و1961، وقد قامت بجمعها وإعدادها للطباعة في كتاب أنيق، كريمة صاحب الرسائل السيدة الكاتبة رنا أبو حنا، وكنت أفضل أن تمهر كتابها هذا بكلمتين أخريين هما: إعداد وتقديم، فقد تركز جهدها في الإعداد وليس في الجمع، بعد أن استخرجت الرسائل، بالتعاون مع والدتها، من احد الأدراج الخاصة، وقدمت لها بكلمة شاعرية طيبة أشارت فيها إلى أن هذه الرسائل قد تساهم في أدب البوح العاطفي شبه المغيب في أدبنا الفلسطيني، علما أن هذا الأدب لم يخلُ خلوًا تامًا، وهو ما لم تقله رنا في مقدمتها لكتابها هذا، من هذا النوع الأدبي الفتان، فقد سبق وأصدر عدد من الكتاب كتابات تندرج تحت هذا النوع من الكتابة، أشير منهم إلى الكتاب والشعراء: حنا إبراهيم في كتابه السخي في انسانيته" مذكرات شاب لم يتغرب"، حنا أبو حنا- قريب رنا- وكاتب التظهير لكتابها في سيرته الذاتية "ظل الغيمة"، والشاعر حسين مهنا في كتابه "سرير ابيض"، ومجموعته الشعرية " الحب أولا..".
يجسد الكتاب عبر ما تضمنه من رسائل، بلغ عددها الـ 126، قصة عشق، بين رجل محب مدنف يملأه الوله لمحبوبته ويشده الحنين إليها من مدينة القدس التي رحل إليها من مدينته الناصرة بهدف دراسة القانون في الجامعة العبرية هناك، ويروي القصة منذ بدايتها عام 1952، حينما كان احد طرفيها جوليا في الثالثة عشرة والآخر أنيس في السادسة عشرة. يومها تعرّف الاثنان كل على الآخر في بيت صديق مشترك لهما هو عاطف عزام، الذي سيكون احد رعاة قصتهما.. قصة الحب التي تذكر بقصص الحب العذري في أدبنا العربي القديم، مع فارق بسيط هو أن ما واجهته هذه القصة من عقبات ومصاعب، تم تجاوزه رغم الفارق بين منبت طرفيها، ففي حين كان أنيس، وقد جمعت كاتب هذه السطور علاقة طيبة به، من عائلة عادية عرف أبناؤها بحبهم للعلم وتألق عدد منهم في مجالاته الأدبية خاصة، مثل الكاتبين أكرم أبو حنا صاحب كتاب" قوت الابناء"، وحنا أبو حنا الذي قال عنه محمود درويش خلال إشارة لافتة:" لقد تعلمنا منه ترابية القصيدة "، وبين جوليا فوزي عازر وهي من عائلة نصراوية مُنعّمة ويعتبر بيت والدها واحدًا من معالم البلدة القديمة في مدينتنا الناصرة حتى هذه الأيام حيث تحول إلى معلم سياحي يشار إليه بالبنان.
نتعرف في الرسائل التي ضمها الكتاب، على احد طرفي العلاقة وهو المحامي أنيس أبو حنا - في بدايات حياته، ويضم الكتاب بالمناسبة بعضًا مما كتبه ونشره من مقالات في صحافة تلك الفترة، لا سيما في مجلة "المجتمع" التي أصدرها آنذاك وتولى إدارتها وتحريرها الشاعر الراحل ميشيل حداد، في حين تغيب صورة الطرف الآخر- جوليا عازر، لأنها رمت مجموعة رسائل السنوات السابقة لمجموعة الرسائل المنشورة في الكتاب، إلى "نفايات العبث"، كما تقول رنا في مقدمتها للكتاب، والمقصود بهذه الفترة من 1952 حتى 1956 وهي فترة الرسائل المنشورة.
يبدو أنيس في هذه الرسائل صريحًا، واضحًا ومباشرًا، فهو يفيض حبًا وهيامًا بمن اختارها قلبه لتكون رفيقة العمر، وهو دائم التفكير فيها رغم انشغالاته الجادة في أموره الحياتية اليومية، ويطلعها على كل كبيرة وصغيرة، فهو- مثلًا- يشير في مطالع عدد من الرسائل إلى الساعة المتأخرة التي كتبها فيها، ما يوحي انه يريد أن يقول لها، دون أن يقول، انك معي في هذه الساعات المتأخرة من الليل وها أنذا اكتب إليك، فأنت مقيمة في ذاكرتي لا تبرحينها إلا لتعودي إليها ملكة متوجة على عرش القلب.
يريد العاشق في رسائله هذه أن يشارك محبوبته كلَّ ما يمر عليه خلال يومه المتعب المضني، ونحن نراه يطلعها في إحدى رسائله إليها على ما يمر به خلال يوم عمل كامل.. يخبرها: أربع ساعات ونصف الساعة للعمل، أربع ساعات للدراسة، ساعة تنقل بين جمعية الشبان المسيحية حيث يقيم وبين الحرم الجامعي، ساعتان إفطار وغداء، وساعة راحة إضافة إلى سبع ساعات نوم!! أما شوقه إليها فيبلغ ذروته عندما يخبرها أن هناك فرصة سانحة لان يزور الناصرة مرافقًا احدهم خلال ساعات على أن يراها ويعود إلى القدس.
يلفت النظر في هذه الرسائل عامة، صيغة الغائب المخاطب- وهو هنا جوليا-، فهي الشقيقة حينا، وهي الحبيبة حينا آخر، والخطيبة في حين تال. تستحق صفة الشقيقة هنا وقفة خاصة، فهي تحمل دلالة معينة تشير إلى ما اتصفت به تلك السنوات التي كتبت فيها تلك الرسائل من تحفظ، فقد وقّع كاتبها أنيس أبو حنا بعضها باسم أخته نادية، خشية أن تقع الرسالة في يد من لا يرحم. أما قمة تودد أنيس لجوليا فقد تمثل بهمساته الدافئة لها.. انيسك.
يأتي هذا الكتاب بعد أكثر من ستين عاما على كتابة رسائله ونحو الثلاثين عاما على رحيل كاتبها المحامي أنيس أبو حنا الذي غادر عالمنا وهو في ذروة الشباب والعطاء، وإذا كان لي من كلمة أقولها في نهاية هذه العجالة الموجزة، هي أن هذه الرسائل تقدم صورة فترة من الزمن اتصفت بالصراعات السياسية في بلادنا، وقدمت الوجه الآخر- الإنساني والمحب لنا، وفي رأيي المتواضع أن هذا الكتاب، بما تضمنه من رسائل، يمكن أن يكون مادة خامًا لرواية أو مسرحية أو حتى لفيلم سينمائي درامي من طراز رفيع.
ـــــــــــــــــــــــــ
*صدر في الناصرة عام 2017