غياب الإسلام الثقافي والروحاني مزرعة للانشقاقات
يجمع جميع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بأن شهر رمضان المبارك هو شهر الانتصارات، الانتصارات العسكرية لما يزخر به تأريخ المسلمين الأوائل من فتوحات وانتصارات، والانتصارات المعنوية لما يُكسب الإنسان من انتصارات على النفس الخبيثة التي تسكن بين جنبيه
ولا يكاد يخفى على أحد أن الوقود الأساسي للانتصارات العسكرية هو الوحدة والاتحاد اللذان يكسبان الأمة القوة والمنعة من حيث التعداد البشري والإمكانات العينية، وان الوقود الأساسي للانتصارات المعنوية هو محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم التي تكسب الأمة القوة والمنعة الروحانية
ولعل غياب هذان العنصران هو الجواب الذي يكشف عن سبب ما تتعرض له امتنا العربية، والإسلامية، في هذه الأيام العصيبة، من تشرذم، وفرقة، إلى أن بلغ الأمر بنا إلى الوصول إلى أعداد تكاد لا تعد ولا تحصى من الأحزاب والحركات والجماعات فأصبحنا غرباء عن بعضنا البعض يستوحش المرء العادي منا إذا ما جلس حتى في مسجد يتبع لهذه الجماعة أو تلك فكيف بمن ينتمي إلى جماعة؟ وهذا ليس سرا أن لكل جماعة من الجماعات الإسلامية في هذه الأيام مسجدها الخاص بها يكاد يكون حكرا عليها بدلا من أن تكون هذه المساجد بيوتا من بيوت الله لتبقى على عموميتها يستأنس بالجلوس فيها جميع المسلمين
ومما يزيد من حدة هذه الوحشة، واستشراء البعد بين المسلمين، هو تبني هذه الأحزاب والجماعات والحركات للإسلام السياسي بشكل محض دون المزج بينه وبين باقي جوانب الإسلام الثقافية والروحانية وعزله عنها نهائيا، كما يحدث في كثير من الأحيان في هذه الأيام، حتى أصبح يُخيل للبعض أن لا جوانب في الإسلام سوى هذا الجانب، الذي يرتكز غالبا على المصالح المشتركة بين من يتبنونه حاله حال السياسة بشكل عام في حين ترتكز التربية الروحية إلى بناء علاقات أخوية حقيقية ووثيقة بين من يتبنونها من أفراد وجماعات تجعلها أكثر اتحادا وتماسكا بينما يسهل غياب هذه التربية والاقتصار على تبني الجانب السياسي للإسلام وفصله عن باقي الجوانب الثقافية والروحانية، عمليات الانشقاق والتشرذم ويجعلها هينة ليس فقط بين الأحزاب والجماعات والحركات وبعضها البعض بل في داخل هذه الأحزاب والجماعات والحركات نفسها والتي كان أخرها ما تناقلته وسائل الإعلام من أخبار تكشف عن احتمالات وقوع انشقاق داخل شقي الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، كل منها على حدة، ليضاف هذا الانشقاق إلى انشقاقها الأول عام 1996 والى الانشقاق بين عمر البشير والدكتور حسن الترابي عام 1998 في السودان وغيرها من الحركات والأحزاب والجماعات، ومن عجيب الصدفة أن يأتي هذا الانشقاق في صفوف شقي الحركتين الجنوبية والشمالية في آن واحد ومتزامنا مع منع المملكة العربية السعودية عُمار عرب الداخل الفلسطيني من أداء عمرة رمضان الأخيرة مما اثأر غضب الكثيرين في هذه البلاد بسبب عدم احترام السعودية حين اتخذت قرارها للخصوصية التي يتميز بها عرب الداخل الفلسطيني عن غيرهم من شعوب الأمة العربية ولإسلامية بسبب حرمانهم ردحا من الزمن من أداء الحج والعمرة، وقوفهم في خط الدفاع الأول عن المسجد الأقصى، وبقاءهم أوفياء لدينهم وقوميتهم رغم الظروف التي يعيشونها والتي كان أخرها قرار السلطات الإسرائيلية إرغامهم على أداء الخدمة المدنية التي ستؤول عاجلا أم أجلا إلى التحاقهم بصفوف الجيش الإسرائيلي
لقد كان محقا من لام المملكة العربية السعودية على قرارها هذا لمساسها المؤلم بهذه الخصوصية والذي قد يكون نابعا من ضغوط سياسية تمهد لخطوات قادمة يلزم اتخاذها التقليل من شأن خصوصية هذا الجزء من الشعب العربي الفلسطيني لإضعاف معنوياته على الأقل، فإذا كان هذا هو أثر ما قام به من كان بعيدا عن هذه الخصوصية فكيف سيكون أثر الانشقاق في صفوف من كان قريبا منها ويدرك معناها الحقيقي وقد يكون من صانعيها، على هذا الجزء من الشعب العربي الفلسطيني وعلى الأمة ككل لا سيما وأن هذه الانقسامات قد أتت في ظروف أحوج ما تكون الأمة العربية والإسلامية إلى الوحدة والاتحاد وخاصة هذا الجزء من الشعب الفلسطيني صاحب هذه الخصوصية المتميزة، ناهيك عن ما تحدثه هذه الانقسامات من إحباط وتثبيط للعزائم وفقدان الثقة بالنفس وحتى تشويه صورة الإسلام الحقيقية وتدلل بشكل واضح وصريح على أن غياب الإسلام الثقافي والروحاني يشكل مزرعة للانشقاقات