كتاب (حليب الضحى) للأديب محمود شقير رواية أم مجموعة قصصية قصيرة جدا؟
الكتاب ليس قصة قصيرة جدا ،وليس رواية وفق المعايير البنائية للسرد ، وإنما الكتاب رواية بتقنيات القصة القصيرة جدا مؤسس على التقنيات المعاصرة للسينما من حيث المشهد واللقطة والتعالق المنفصل بين المشاهد ، وعليه يعد الكتاب ثورة على مفهوم الأجناسية الأدبية .
تشكل البنية الاستعارية المكثفة للعنوان (حليب الضحى) صورة غير مسبوقة فيما أعلم ، إذ ورد في الشعر العربي صورة حلب السحاب ، أما حليب الضحى فلم يرد . وتضمر الصورة التشخيصية بنية دلالية عميقة ومضمرة تتوزع بين حنايا قصص المجموعة ، ولكنها لا تكشف الخمار عن دلالاتها لقارئ عادي بل تحتاج إلى متلق قادر على تفكيك البنية العميقة ، وجمع جزئيات الفضاء الدلالي الكلي الذي تناثر في أعماق القصص التي اختار لها الكاتب تقنيات معاصرة مستمدة من السينما والدراما في الغالب .
سيميائية الإهداء تختزل الفضاء الدلالي لمضمون الكتاب في البعدين الوطني الذي يتجسد في القدس. والاجتماعي الذي يتمثل بالحفيدة " ريتا" .
يدل النص الوارد في صفحة الإشارة إلى أن نصوص حليب الضحى امتداد فكري ووجداني لرواية ظلال العائلة ، وأن " ليلى" في مجموعة القصص القصيرة جدا والروائية تعد معادلا موضوعيا لرؤية أيدولوجية وطنية ، وتعد أيضا فضاء مشبعا بالأبعاد الدلالية الاجتماعية .
خصص الأديب صفحة تحمل رقم (1) أورد فيها قول سلفادور دالي (لا تخف من الكمال فإنك لن تُدركه)، ومن المرجح أن الأديب يختزل فلسفته في الحياة بهذه المقولة ، لأن الأبعاد الدلالية لنصوص الكتاب تعبر عن اللون الرمادي للبعد السيكولوجي للإنسان ، ففي النص ثنائيات القوة والضعف ، والفرح والحزن وغيرهما، كما يرد في قصة (ذلك الهش) (ذلك الهش الضعيف القابل للكسر؛ المتين الرصين في الوقت نفسه)
يشكل الفضاء المكاني في معظم النصوص البعد الدلالي المركزي المبأر على الرغم أن الكاتب يكتفي بالإشارة للمكان ، والتفصيل السردي للحدث ، ولكن البنية العميقة المقصودة هي المكان ، ففي نص (قيس) يأتي حي رأس النبع في القدس إشارة مكانية . ويشكل نص (يافا) ثنائية المضمر والمعلن ، فالمضمر (يافا) التي جاءت عنوانا ، وإشارة عابرة في السطر الأول ، والمعلن مشهد رومانسي مفعم بالحب والأنوثة يقترب من لقطة سيميائية ، ولكن المضمر هو المقصود الذي يختزل الحق التاريخي بالعودة إلى يافا ، وكأن الكاتب يرسم مشهدا سرديا مثيرا يفضي إلى وهم المتلقي بالمقصود . وفي قصة (سبب الحب) يصور السرد المعلن البطالة والاضطرار للعمل في مجالات بعيدة عن التخصص ، ولكن السرد المضمر يدعو المتلقي إلى معرفة مخرجات سياسة الاحتلال في القدس التي اختزلتها عبارة ( البطالة دفعتني للعمل في هذه المهنة الخطرة في الظروف التي تحياها القدس) .
تتناغم العناقيد الدلالية في النصوص مع تقنيات بناء القصة القصيرة جدا ، إذ تأتي موحية مكثفة دالة ، ففي قصة (قيس ) تكثيف دلالي يتوزع على حرمان الاحتلال للمواطن الفلسطيني من العمل بسبب مواقفه الوطنية ، واحترام رغبة الزوجة بالطلاق التي تؤسس لمفهوم " ثقافة الطلاق والانفصال " ، وتأثير التفاوت الطبقي في الزواج ، كما في قصة (الحبيب قيس) التي تصور الرفض الغاضب ، والغيظ من زواج قيس سائق التاكسي المنحدر من أصول بدية ، وهي قضايا اجتماعية كبرى اتسعت لها سطور معدودات.
تشغل الصورة الحركية حيزا لافتا في المتن السردي ، تقترب من المشاهد الدرامية ، ففي نص (يافا) يتجلى تتابع الأفعال الحركية ( ذهبنا ، مشينا ، خلعت ليلى فستانها ، نزعته عن بياض جسد ،ارتدت ملابس السباحة ، وقفت تتأمل ، حملتها بذراعي )
تحفل غير قصة بالانزياح الدلالي بين المشهد التصوري والمشهد النفسي ،ففي قصة (قلق) يرسم الكاتب صورة فنية تعبق بالأنوثة والجمال في قوله : ( حينما تنزل درجات باب العمود ، وهي تتأود مثلَ سروة بفستانها الرشيق)، ولكن المشهد النفسي يشكل ثنائية ضدية مع المشهد الأنثوي الجمالي لأن نزول تلك الجميلة الفاتنة الرشيقة عن درجات باب العمود يرافقه توتو وقلق وخوف في قول السارد (ينزل قلبي معها الدرجات).وفي قصة (هديل) يمتزج الحب بالحرب ، والفرح بالخوف ، والسكينة بالقلق ، ففي المشهد التصويري تتجلى دلالات الحب والتأمل والتفاؤل في قول السارد : ( قلت : لك ولي رونق الصباح .ورائحة البن ، وغبطة النوافذ المشرعة، وهديل البنات الذاهبات إلى المدارس) ، وفي المشهد النفسي انزياح دلالي يسلب المشهد التصويري جمالياته في قول السارد : (قالت : لك ولي هذا الهدوء الذي قد تعصف به الطائرات). وفي قصة (البرية) يتماهى الانزياح الدلالي الحاد بين مشهد تصويري مفهم بالحب والأنوثة كما يتجلى بقول السارد :(خلعت فستاني وكورته بين يدي ، ثم طوّحت به ، فاستقر بين العشب ،من دون خوف أو قلق . ثم عاد به قيس إليّ بعد ساعة لذيذة من ألق ) ، ولا يخفى أن المشهد التصويري يَضمر النشوة والشهوة وانصهار الجسدين ، ولكن الفضاء النفسي مثقل بالحزن والحنين ؛ لأن اللقاء في البرية كان بالقرب من قبر الشهيد ، واللقاء محفوف بقلق من عيون كاميرات المستوطنات التي ترصد كل صغيرة وكبيرة ، فالانزياح بين المشهدين تأكيد انتصار الحب على الحرب والخوف ، والتأكيد أن التمسك بالحياة ومتعتَها أقوى من مخاطر الاستيطان.
يستمد الكاتب من السينما تقنية قطع المشاهد السردية ، والفصل بينها بقصص لا تتعلق بها مباشرة، ففي القصة الأولى (قيس) يخبرنا السارد أنه استجاب لرغبة نفيسة بالطلاق في قوله : (تزوجت نفيسة؛ ابنة عائلتي، وبعد ثلاث سنوات طلبت الطلاق؛ فلم أتنكر لرغبتها.) وتخلو القصة الثانية (يافا) من الكشف عن سبب الطلاق الذي يُفصح عنه الكاتب في القصة الثالثة (ذلك الهش ) في قول السارد: (ابنة عائلتي نفيسة طلبت الطلاق لأنها كانت ترغب في الإنجاب) . وفي القصة الأولى( قيس) يخبرنا السارد بحبه لليلى ، وفي القصة الرابعة (سبب الحب) يخبرنا بأسباب الحب. ويتأخر التعريف بشخصية ليلى حتى القصة الثانية عشرة التي جاءت بعنوان (ليلى) ،إذ تعرض القصة بطاقة تعريفية لليلى (اسمي ليلى محمد حسن القانع ، ولدت في القدس والأصل من يافا)، وتكشف كذلك عن البعد الوطني السياسي والحق التاريخي بالعودة إلى يافا ،وهو البعد الذي جاء مضمرا في القصة الثانية (يافا) ، إذ يبوح السارد في القصة الثانية عشرة بما سكتت عنه القصة الثانية ( رصاص أعدائي اضطر أجدادي إلى مغادرة بيوتهم ، ومطارح الذكريات)
تؤسس بعض القصص لثقافة البوح والتطهر ، وتغلّب " الأنا " على "الهو" حينما يحدث صراع بين رغبة الرجل بالزواج والحقوق الفطرية الغريزية للزوجة ، كما في قصة (لؤم ) ( أشعر في بعض الأحيان بأنني مخادع لئيم ، وإلا لماذا أوقعت ليلى في حبائلي وأنا أعلم أنها كانت راغبة في إنجاب الأطفال ؟ )
يعتني الكاتب باستحضار اللحظة الزمنية المتوترة المتماهية مع الموقف الوجداني المضطرب ، كما تجلى في قصة (قلق)
يجسد دال الزمن (حين) الزمن المتوتر الذي يصور مشاهد من الحياة اليومية المثقلة بالقلق في حياة الفلسطيني في القدس ، فالوصول إلى مكان العمل ، والمرور من باب العمود ، وتفتيش جنود الاحتلال للمواطنين ، والسير في أسواق القدس مشاهد يومية محفوفة بالمخاطر . ويتجلى اضطراب الموقف الوجداني في الفعل المضارع المسند للقلب في أربعة مواضع الذي يرصد التموجات النفسية من قلق وخوف وتوجس وارتياب .
تسهم لغة الجسد في الكشف عن الفضاء النفسي ، ففي قصة (مناجاة) تكشف التعبيرات الحركية عن دلالات تعجز اللغة عن الكشف عنها في قول السارد : (هزت رأسها بين قبول واعتراض، أو ربما هو الدلال الذي يجعها غامضة في بعض الحالات).
في المجموعة القصصية نصوص تشكل معمارا رمزيا يتسم بالانفتاح الدلالي نحو التأويل اللانهائي الذي يتسع وفق ثقافة المتلقي في التحليل والتأويل ، نحو قصة (دليل) ( قالت ذات نهار : الطريق طويل .قلت : نحكي حكايتنا ونمشي ، وقلبك هو الدليل .مشينا ومشينا وما زلنا نمشي حتى الآن ).
يعيد الكاتب صياغة مفهوم الحب الذي يتجاوز الرغبة في الإنجاب في قصة (ندم) ، إذ إن الحب عاطفة إنسانية أقوى من غريزة الإنجاب وديمومة النسل ، ولكن هذا المفهوم الإشكالي لا يخلو من صراع نفسي بين الحب وحده ، والإنجاب في العلاقة الزوجية ، وأرى في هذه الإشكالية مساءلة فلسفية لمؤسسة الزواج تتجاوز الأهداف المألوفة من الزواج . ويتجلى الصراع النفسي بين الحب وحده ، والرغبة في الإنجاب في قصة (أولاد وبنات) حينما يتكرر حلم ليلى في المنام أنها أنجبت أولادا وبناتا.
يستعين الكاتب في بعض القصص بالمرجعيات الثقافية لتعزيز الرؤية الفكرية السردية ، نحو استدعاء قول الشاعر : لا يعرف الحبَ إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
تعرض القصص مشاهد من قضايا اجتماعية حرجة نحو تعرض الفتيات القاصرات للتحرش الجنسي في قصة (نهدي الأيسر) ، واللافت أن القصة تشير إلى أن المتحرش رجل في الأربعين من عمره ، وليس مراهقا ، وفي الإشارة للعمر تكمن أزمة أخلاقية لدى كبار السن ، وتثير لدى المتلقي أسئلة تحفر في البنية الاجتماعية والمستوى الثقافي لفئة الرجال المتحرشين ، هل يرتبط السبب بالشبق أم بالحرمان الجنسي أم بأمراض نفسية سلوكية ؟