عدت أمس من مشاهدة المسرحية الغنائية العاشق- وهي نصوص ( شعر ونثر) للشاعر الكبير الراحل الباقي محمود درويش ، إعداد وموسيقى وإخراج الفنان المبدع نبيل عازار وأنا محمّلة بمشاعر مختلطة من انتشاء وفرح وحزن انتشاء من كم الإبداع المتكامل الذي عشته من موسيقى وأداء فنانين مبدعين أكثر من رائع وغناء وتمثيل مدهش! شيء ليس من عالمنا بل فاق الخيال ولا أبالغ فأنا أقول هذا الكلام بناء على دراية نقدية بأهداف المسرح.
عشنا مع درويش وبه، تنفّسنا هواءه منذ نعومة أظفاره، ورأينا معاناة الفلسطيني من خلاله في النكبة والتهجير، وأن تكون غريبًا في وطنك فترحل ولكن وطنك لا يغادرك
تعدّ المسرحية الغنائية "العاشق" تجربة فنية متكاملة تجمع بين الشعر والموسيقى والأداء المسرحي، مستندة إلى أشعار محمود درويش. تمثل هذه المسرحية مزيجًا إبداعيًا يسلط الضوء على محطات مختلفة من حياة الشاعر، معتمدةً على تقنيات الإخراج الحديثة والسينوغرافيا المتقنة لإيصال تجربة حسية غامرة.
اعتمدت المسرحية على فنانين مبدعين أمثال حسن طه وإياد شيتي وماشا سمعان وإتقانهم لأدوار عدة الجد والأب – إياد شيتي
ودرويش الابن- حسن طه
الأم وريتا ماشا سمعان
والفنانتان مريم باشا وحلا سالم وإبداع رائع وانتقال سلس مبدع بين شخصية وأخرى
تفوّق الممثلون على أنفسهم فلم نعد قادرين على التفريق بينهم فهم بمثابة عقد من لؤلؤ لا يمكن اختيار حبة وترك الأخرى!
ووجود فن شامل يجمع التمثيل والصوت والطرب مع بوليانا قسّيس وعلاء شرش ولبيب بدارنه ،وديمة عازر ما هذه الأصوات الملائكية؟! ولماذا هي ليست في الصقوف الأولى للساحة الطربية العربية والعالمية.
لم يملكوا أصواتًا فقط بل موهبة تمثيلية فرضت نفسها فهم ممثلون شاملون
ديما عازر ودور الطفل درويش أتقنته بشدة وليس غريبا هذه الموهبة فهي ابنة المبدع نبيل عازر التي تربت على الفكر والفن والثقافة فطبيعي أن تكون هذه النتيجة
النص والإعداد المسرحي يستند النص المسرحي في "العاشق" إلى قصائد مختارة من أعمال محمود درويش، التي تعكس جوانب وجدانية ووطنية من سيرته الذاتية. قام المخرج نبيل عازر بإعداد النص بحيث ينسجم مع بنية المسرح الغنائي، مع التركيز على توظيف شعر درويش في إطار درامي متسلسل يعكس تحولات حياته الفكرية والعاطفية. ويكمن الإبداع في الإعداد في قدرة النص على الانتقال السلس بين المشاهد دون المساس بجوهر الشعر الأصلي، مما يجعله تجربة فريدة تمزج بين الحكي والغناء والأداء الحركي.
الموسيقى وأداء الفنانين الموسيقى في "العاشق" تلعب دورًا جوهريًا في تعزيز المشاعر الدرامية للنص، حيث أُعدّت ونُفّذت بواسطة كرم مطر، بينما كان التوزيع الموسيقي متقنًا بحيث يعكس التحولات العاطفية والفكرية للشاعر بحيث تتماشى المقطوعات المختارة مع الإيقاع الشعري لدرويش، مما يضفي بعدًا جماليًا يجعل الجمهور مندمجًا مع كل مشهد.
من جهة أخرى، يتميز أداء المشاركين في العمل، مثل إياد شيتي
وعبقرية التمثيل وتلونه في لعب عدة أدوار
وحسن طه الذي شاهدته في مسرحيات عدة يتلوّن كتلوّن الحرباء بحرفية عالية
وبوليانا قنطيش، وعلاء شرش ومريم الباشا ولبيب بدارنة وحلا سالم وديمة عازر، بحرفية عالية، حيث استطاعوا تجسيد مشاعر وأفكار الشاعر بأسلوب مسرحي غنائي يتناغم مع النص والموسيقى.
السينوغرافيا والحركة المسرحية :تُعد السينوغرافيا عنصرًا بصريًا مهمًا في المسرحية، حيث صممها أشرف حنا بعناية لتعكس الأجواء المختلفة لكل مرحلة من حياة درويش. تنوعت المشاهد ما بين الأجواء الحالمة والتجارب الشخصية واللقطات الدرامية، مما أضفى على العمل طابعًا سينمائيًا داخل المسرح.
أما الحركة المسرحية، التي تولّى تصميمها حلا سالم ولنا زريق، فقد جاءت لتعزز ديناميكية العرض، حيث كانت متناغمة مع الإيقاع الموسيقي والنص الشعري، مما جعل الأداء أكثر تجسيدًا وانسيابية.والرقصات التعبيريّة للنا وريق أخذتنا إلى عالم آخر
الإنتاج :تم تنفيذ هذا العمل بإنتاج مشترك بين مسرح الجوال ومسرح المجد، مما أتاح له الإمكانات اللازمة للخروج بإنتاج مسرحي عالي الجودة.
الإخراج: بقيادة المخرج المبدع نبيل عازر ، الوحش الذي افترس أصواتنا وسط دهشة إبداعه ، كان عنصرًا حاسمًا في تحقيق هذا التكامل بين النص والموسيقى والأداء، حيث استطاع خلق تناغم مدهش بين العناصر الفنية المختلفة متممًا إبداعه من إعداج وموسيقى وإخراج
وأوصل الرسالة الأكبر من خلال حياة درويش، فهي سيرة حياة الفلسيطني المقاوم العاشق لفلسطين الذي حتى لو مات فإن قضيته تتابع المسير حتى تصل لآخر النفق.
واللغة شديدة الاتقان تليق بدرويش ومكانته ولغته ، فكان اتقانًا أكثر من رائع ( باستثناء الإعلان للمسرحية ووجود الهمزة على أل التعريف في " العاشق"
تجسّد المسرحية مراحل مختلفة من تجربة الشاعر الحياتية والشعرية، حيث يتم تقديم تطور الشاعر عبر محطات زمنية وجغرافية متعددة، مما يعكس البعد الدرامي والوجودي في تجربته.
مشهد البداية (بروموغ): يمثّل هذا المشهد نقطة الانطلاق في تجربة الشاعر، ونكبة 1948 حيث يتمحور حول هجرة أهل القرية والرحيل إلى لبنان العودة المأساوية للفلسطينيين إلى بلادهم، متسللين ليمنعوا من دخول قريتهم ، ليكشف عن الحنين والاغتراب والتمزق بين الذاكرة والواقع. ويوظف هذا المشهد روح النضال والحرية أبعادًا مركزية.
مشهد قرية البروة – “رباعيات القرن الماضي”: في هذا المشهد، يتجسد العالم القروي بكل بساطته وتناقضاته. يسرد الشاعر نشأته في بيئة تتأرجح بين قسوة الحياة والبراءة الطفولية، مما يرسّخ الجانب التوثيقي والشعري في آنٍ واحد.
مشهد حيفا – “ستينيات القرن الماضي”: هنا، يخرج الشاعر درويش من بيئته القروية إلى المدينة، حيث تتشكل رؤيته الفنية والفكرية. تعكس هذه المرحلة انفتاحه على قضايا جديدة، وتجربته في الكتابة والتعبير الشعري. وخوضه لتجربة حبه لريتا وفرض الإقامة الجبرية في مدينته وبيته ليارك الوطن لأنه يرقض هذا التقييد لحريته وقلمه.
مشهد بيروت – “سبعينيات وبداية الثمانينات – القرن الماضي”: تعد بيروت محطة أساسية في التجربة، حيث يمثل هذا المشهد ذروة المواجهة مع الأحداث السياسية والنضالية. في هذا السياق، يتناول الشاعر الحروب واللجوء والمعاناة، ليعايش فترة نشاط المقاومة الفلسطينية والعمليات الفدائية، والحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت وخروج الفلسطينيين من لبنان وكجازر صبرا وشاتيلا وتركه للبنان. مما يعزز البعد التراجيدي في قصائده. وروعة تجسيد صبرا وشاتيلا من خلال فتاة جريحة
مشهد باريس – “منتصف الثمانينات حتى منتصف التسعينات”: تنعكس في هذا المشهد حالة الاغتراب النفسي والفكري، حيث يجد الشاعر نفسه في عالم مختلف تمامًا عن واقعه السابق. يتجه نحو المزيد من التجريب والتجديد في أساليبه الشعرية، مع إدخال بعد فلسفي وتأملي في نصوصه. ومواجهته للموت عندما أجريا له عملية جراحية خطيرة في القلب وشاركنا تجربته برائعة " الجدارية".
مشهد الضفة الغربية، فلسطين (رام الله، عمان) – “نهاية التسعينيات حتى سنة 2008”: يمثل هذا المشهد العودة إلى الوطن بعد اتفاقيات السلام، لكن العودة تأتي محمّلة بالخسارة والخيبة. يسجل الشاعر أبعاد هذه المرحلة في قصائده التي تعكس ازدواجية الحلم والخذلان معبرًا عنهما في ديوانه " خالة حصار" ودواوين وقصائد أخرى.
المشهد الأخير – “لاعب النرد يلخص هذا المشهد التحولات الأخيرة في التجربة الشعرية، حيث يعكس فكرة الصراع بين النجاح والفشل، وبين الأمل واليأس، ليجسد الإنسان في رحلته الوجودية الحافلة بالتناقضات.
تمثل هذه المشاهد مراحل تطور الشاعر، حيث يتنقل بين المنفى والوطن، بين الصدام والتأمل، وبين الانخراط في الأحداث الكبرى والانكفاء إلى الذات، ومحاولة الهروب من الموت فينتصر الموت ليقول شاعرنا: " من أنتا لأخيّب ظم العدم" ولكنّه مات جسدًا ـ فمن تبقى كلمته لا يموت فهو حي في قبوب كل فلسطيني وعربي
ومن خلال تحليل هذه المشاهد، يتضح أن تجربته تتسم بالتنوع والثراء، وتعكس جدلية العلاقة بين الشاعر درويش وتاريخه الشخصي والجمعي، مما يجعل نصوصه ذات قيمة فنية وإنسانية عالية.
فليس وحده عاشق فلسطين ، فهو يمثّلنا جميعًا
وتنتهي المسرحية بالإيبيلوغ ، من خلال صلاة لرحيل الشاعر ووصيته للإنسان: " فكّر بغيرك" ونشيد الأرض والحياة" على هذه الأرض ما يستحق الحياة" لتكون رسالة عادفة ففلسطين لم ولن تموت والقضية لا تموت بموت أصحابها ، فالضوء بانتظارنا خارج النفق.
المسرحية الغنائية "العاشق" تُعد تجربة رائدة في المسرح الغنائي العربي الفلسطيني ، حيث استطاعت تحويل شعر محمود درويش إلى عمل درامي متكامل يدمج بين الأداء الصوتي والبصري في سياق فني متماسك. بفضل الإعداد الدقيق للنص، الإبداع الموسيقي، الأداء القوي، والتنفيذ السينوغرافي المتميز، نجح هذا العمل في تقديم تجربة مسرحية لا تُنسى، تؤكد على قوة الكلمة والشعر في تجسيد القضايا الإنسانية والوطنية.
وقد أثلج صدري حضور نخبة من المثقفين، فنحم بحاجة إلى صحوة جمهور مسرح واعٍ مثقّف
مبارك لنا هذا الإبداع، وفلسطين ولّادة بمبدعين مائزين فطوبى لكم ، أعدتم الأمل لنا رغم سوداوية القتل الممنهج الذي تنفشى في مجتمعنا المريض ، ولكنه بفضل مبدعين أمثالكم سيتعافى ويحيا من جديد وسيكثر عاشقو فلسطين وأنتم يا من صنعتم هذا العمل أوّل العشاق وسيزداد عاشقو فلسطين بقضل هذه الإبداعات
وشكرا لسخنين ولمسرح جوال ومسرح المجد الذين دأبوا على عمل فني مبدع يحترم عقل الجمهور المثقف ويرتقي بذائقة جمهوره.