كان لنا شرف استضافة الروائيه الصديقه العزيزه دعاء زعبي خطيب في بيتنا حيث زارتنا وبيديها باكورة اعمالها الروائيه " جوبلين بحري" هديه متوجة باهداء شخصي والكثيرمن مشاعر الصداقة والمودة عميقة الجذور طويلة السنين.
في الايام القليلة التي تلت الزيارة قمت بقراءة الرواية بتلهف واهتمام حتى جئت على اخر صفحاتها.
اثناء ابحاري في عباب " جوبلين بحري" توقفت عند ثلاث موانئ , كانت محطات على مساري البحري هذا.
الميناء الاول وهو السرد المجرد Abstractism للاحداث والشخصيات والمواقع بمفهوم تسلسلها المجرد عن التبطين بالوصف الجميل والتذييل بالحس الفني للكلمة وهو كمثل اللوحه المرسومة بالابيض والاسود دون ادخال الالوان والاضافات التي من شانها ان تكسب المضمون الفني المجرد جمالا على جمال وعمقا ياخذ الناظر اليها الى اماكن ابعد وتصورات تفوق المفهوم المبسط.
ميار شابة فلسطينية طموحة من يافا, المدينة التاريخية العريقة ومن بيت ميسور الحال تواجه اثناء انخراطها في التعليم الجامعي مصاعب واحباطات بطلتها محاضرة جامعية , امرأة مشربة بكل عوامل العنصرية والكراهية , ذات خلفية عسكرية " كبتن طيار" جردتها من كل مفاهيم التعامل الانساني والانوثة الدافئة وحنان الام لاولادها اذ تقف سدا منيعا في وجه ميار محاولة نهيها عن اكمال تحصيلها العلمي بذريعة انها ليست بمستوى المهمة ناصحة اياها بالحياة الزوجية دافنة طموحها في اعماق الارض.
ميار التي ترفض, وباصرار نصيحة ساره, توجه سهامها الى ما وراء البحار, والى المانيا بالتحديد راسمة لنفسها هدفا واضحا كوضوح الشمس ,وهو التحدي والنجاح , رغم كونها ابنة وحيدة لوالدين هي بالنسبة لهم كل ما يملكون.
الوالدان اللذان اضنتهم معاناة وحيدتهما , من ناحية , وابسطهم اصرارها وطموحها من ناحية اخرى يرضخان لرغبتها مانحين اياها بركتهما متمنين لها النجاح والتوفيق.
تمر الايام والسنون وتعود ميار بعد خمسة عشرة عاما متوجة بشهادة الدكتوراة بعد ان حصدت النجاحات في مجال دراستها ولاحقا في مجال عملها.
تعيدني هذه المحطة من الرواية الى روايتي انا التي تشبه الى حد بعيد رواية ميار وسيرورة حياتها , الى حين رجوعها الى ارض الوطن مسلحة بشهادة الدكتوراة. فحكايتي كحكايتها يوم رفضت لتعلم الطب في الجامعات الاسرائيلية واضطررت مكرها الى السفر الى ايطاليا للدراسة في احدى جامعاتها تاركا بيتا واهلا واصدقاء لاعود حاملا شهادة الطب بتميز بعد سنين عده. تنطبق هذه الرواية على الكثيرات والكثيرين من ابناء هذا الوطن , فلسطين , الذين اجبروا مكرهين على السفر في طلب العلم او العمل بعد ان ضاقت بهم فرص التعلم او العمل في الوطن.
اما الميناء الثاني الذي رست فيه سفينتنا على مسار ابحارها في " جوبلين بحري" فهو الاغناء Inrichment بالحس الفني المرهف والقدرة اللغوية التصويرية اللذان اضفيا الالوان الجميلة الزاهية على لوحة الابيض والاسود فجعلت منها تحفة فنية تستحق كل الاعجاب والتقدير.
ان تمكن الكاتبة من مزايا اللغة وقاموسها الغني بالمصطلحات والتعابير وقدرتها على تصوير الاماكن والشخصيات والمواقف باجمل الاوصاف جعل منها روائية فنانة ترسم بالكلمات اجمل اللوحات وارقى الرسومات.
ان القارئ لجوبلين بحري يجد نفسه ,وفي كل صفحة , من جديد , غارقا في مشهد فني مختلف خلاب وغني بالتصاوير الاخاذة والتي تجعله يهيم طربا , ان صح القول , يمتع الاذن بموسيقى رنين الكلمات والتعابير التي استمدت من وحي خيال الكاتبه المفعم بكل ما هو جميل ومعبر مستثمرة اياه في اغناء الكلمة باللون والمعنى.
اما المحطة الثالثة والاخيرة فهي ميناء الرمزية Symbolism حيث تعدت الرواية معناها ومقصدها المجرد الى الرمزية البارزة اذ نجحت الكاتبة في روايتها بتسجيد قضية شعب وقصة نكبته. التهجير , المعاناة, الحنين, التمسك, الصمود في المواقف . كل ذلك وجد له حيزا مناسبا ومساحة واسعة في الرواية.
التهجير , ممثلا باقتلاع ميار من بيتها ومدياتها ووطنها وسفرها الى المانيا, وان كان طوعا فهو وليد الظروف التي اجبرتها على هذا الخيار. المعاناة الممثلة بالبعد عن الاهل ومصاعب التاقلم والعيش في بيئة غريبة اجتماعيا وثقافيا ولغويا ومناخيا.الحنين والمشار اليه بالشوق للاهل وللحبيب والبلد الام والقهوة والماكولات البيتية والذكريات وغيرها.التمسك ممثلا بالتغني المستمر بيافا وايام يافا والعادات والتقاليد والعودة الى يافا والى الحبيب بعد غياب طويل.اما الصمود فهو ممثل ببقاء الكثيرين في بيوتهم وعودة المهاجرين في طلب العلم ليزاولوا في وطنهم الام ما تعلموه في الغربة خدمة لابناء شعبهم رغم التعسف الصهيوني والاضطهاد العرقي والتفرقة العنصرية.
نعم انها قصة شعب قسا عليه الدهر لكن لا بد لصموده وتمسكه بارضه وايمانه بصدق قضيته الا ان يكلل بالفرج المنشود مهما طال الزمن , ان بعد العسر يسر.
استنادا الى ما اسلفت سابقا فان الاستنتاج الذي يفرض نفسه هو ان جوبلين بحري هي رواية جمعت في ثناياها حكاية شعب جار عليه الزمن , ممثلة ببطلة الرواية ميار التي سارت على عكس شعبها , المنكوب والمظلوم والمشرد حتى يومنا هذا , فقد نالت ما تبغي وما تصبو اليه, وحققت حلمها وحلم اهلها وعادت سالمة غانمة لتلم شملها وتعيش في وطنها بين اهلها واحبائها.
رغم قساوة الاحداث والوقائع التي اوردتها الكاتبة فان السرد التصويري اللرائع واللوحات الوصفية التي رافقت الاحداث الجافة والحزينة احيانا من مواقف وشخصيات واماكن يجعل من الرواية تحفة ادبية رفيعة المستوى ممتعة وجذابة تدرج المؤلفة السيدة دعاء زعبي خطيب , رغم ان روايتها هذه هي باكورة انتاجها الروائي , في مصاف كبار الروائيين ويصنفها شخصية ادبية متمكنة مستحدثة وواعدة وان غدا لناظره قريب.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com