نجد في علم البديع مصطلح "التوشيع"، وهو من (الوشْع)، فوشع الشيء في الشيء دخل فيه، ووشَع الشجرة فرّعها، والوشع- لفّ القطن المندوف.
التوشيع نوع من الإطناب، وهو من المحسّنات اللفظية، حيث يُؤتى عادة في عجز الكلام بمثنّى ثم يفسر باسمين- الثاني معطوف على الأول.
نحو: العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان. (كأنه بهذا التفصيل يقوم بندف القطن بعد لفّه).
الغرض منه تمكين المعنى في نَفْسِ الْمُتَلَقِّي تمكينًا زائدًا، لوقوعه بعد استشراف النفس إليه بالإِبهام.
فبالتوشيع يتم الإِيضاح، فالشيء إذا علم ناقصًا تشوّقت النفس إلى العلم به كاملاً، وحصل لديها ظمأ لمعرفته، فإذا استكملت النفس معرفته كانت لذّتها أشدّ من حصول العلم به دفعة واحدة.
...
من التوشيع ما ورد في الحديث الشريف:
"يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبٌّ مِنْهُ اثْنَانِ: الحرصُ على المال، والحرصُ عَلَى الْعُمْرِ".
اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال.
"لاَ يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتيْن: في حُبِّ الدّنْيا، وطُولِ الأَمَلَ".
..
من التوشيع قول ابن الرومي:
إذا أبو قاسم جادت لنا يده *** لم يُحمدِ الأجودان: البحر والمطر
وإن أضاءت لنا أنوار غرّته *** تضاءل النيّران: الشمس والقمر
(ويرويان أيضًا لأحمد بن أبي طاهر- كما ورد في كتاب العسكري – كتاب الصناعتين، ص 425- الفصل الرابع والثلاثون، حيث يسميه هنا "التطريز" ، ويراه كالطراز في الثوب، فالتطريز في قوله: "الأجودان"، "النيران")
..
التوشيع نجده في الشعر والنثر -كما لاحظنا-، فهناك شعراء اهتموا، بل بالغوا بمثل هذه المحسنات اللفظية.
من ترديد التوشيع نقرأ قول الشاعرابن سارة:
يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد *** نادى به الناعيان: الشيب والكِبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى *** في رأسك الواعيان: السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل *** لم يهده الهاذيان: العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الـ *** أعلى ولا النيّران: الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها *** فراقها الثاويان: البدو والحضر
..
وقول الفقيه عمارة يمدح صاحب مصر الفائز بن الظافر:
حيث الخلافة مضروب سرادقها *** بين النقيضين- من عفو ومن نقم
وللخلافة أنوار مقدسة *** تجلو البغيضين- من ظلم ومن ظلم
وللنبوة آيات تنص لنا *** على الخفيّين- من حُكم ومن حِكم
وللمكارم أعلام تعلمنا *** مدح الجزيلين- من بأس ومن كرم
وللعلا ألسن تثني محامدها *** على الحميدين- من فعل ومن شيم
وراية الشرف البذّاخ ترفعها *** يد الرفيعين- من مجد ومن همم
..
يلاحظ القارئ أن الشاعر وكأنه يلغز له، وكأن على القارئ أن يعرف ما بعد المثنى، فهو بالتالي يكتشف المقصودين أو يتعرف إليهما.
(نماذج كثيرة أخرى تجدها في كتاب ابن معصوم: [أنوار الربيع في ألوان البديع]- مادة "التوشيع")
..
وقد يأتي التوشيع في وسط الكلام كقول شوقي:
ودخلت في ليلين: فرعك والدجى *** ولثمت كالصبح المنور فاك
أو قول مطران في قصيدته "المساء":
يا لَلضعفين استبدا بي وما *** في الظلم مثلُ تحكم الضعفاء:
قلبٍ إذابته الصبابة والجوى *** وحشاشة رثت من الأدواء
..
وقد يأتي التوشيع جمعًا لا مثنى وفي ابتداء الكلام كقول محمد ابن وهب:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها *** شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر
وقول البحتري:
إفضاله وجَداه والإنعام *** تعلو الوفود ثلاثة في أرضه
و ثلاثة تغشاك مهما زرته *** إرفاده والمنّ والإكرام
و ثلاثة قد جانبت أخلاقه *** قول البَذا والزور والآثام
و ثلاثة في الغرّ من أفعاله *** تدبيره و النقض و الإبرام
..
ملاحظة نحوية:
أبرز إعراب للاسم – إذا وقع مباشرة- بعد المُجمل (أي المثنى أو الجمع الذي يُراد توضيحه) هو: بدل تفصيل، وهو تابع لهذا المبدل منه. وهناك أكثر من خيار له في الإعراب- كما بينت في كتابي: قطوف دانية في اللغة العربية، ج3، ص 52- 54، ويمكن مطالعة المادة عبر محرك غوغل: (فاروق مواسي بدل التفصيل).
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net