منارة الحياة أنارت للرّاحلة الفاضلة أم جمال نفق العمر الطويل، سارت فيه بشموخ، ومع دوران دولاب السّنين حول أيامها، بدأت ظلال الوداع تنعكس على أواخر حياتها، ووصلت إلى نهاية النفق، دون أن تتكئ على عصا الشفقة... عاشت الرّاحلة بيننا، مراعيةً لكرامتها، محافظةً على استقلاليتها، وراعية لزوجها الفاضل العم أبي جمال، أمدّ الله بعمره.
كانت قادرة على مدّ يد العون بالأعمال التي استطاعت القيام بها في كِبَرها، المهم أن يكون لها بصمة في جدول أعمال المنزل، لئلاّ تشعر أنها عاجزة، كانت القديرة في النّشاط اليومي، وإدارة حراك خليّة العمل، منذ ساعات الصّباح الباكر، فكان الجميع من حولها يعمل لخدمتها، والأهم أن يعمل لتلبية الاحتياجات اليوميّة للمنزل، فكانت إطاعة رغباتها واجبًا على كل فرد منهم.
عندما كنت أزور دار عمّي في سخنين، وأدخل هذا البيت، كنت أستنشق بخور التقوى يفوح من أجوائه الإيمانيّة، وكانت الرّاحلة تقوم لتستقبلني استقبالاً أموميًّا، في قُبلتها شعرتُ بالحنان، وفي مصافحتها شعرت بشدّة عزيمتها واحتمالها، وفي ترحيبها شعرت بالود الكبير الذي فرش لي سجّاد الاستقبال المزركش بالحفاوة، كما فَرَشَته لجيرانها والجميع. كم دارت بيني وبين أم جمال أحاديث الذكريات التي طافت بنا حول الماضي القريب والبعيد. منزلها كان وما زال المزار اليومي للعائلة، لتجتمع في حضرة الفاضل أبي جمال.
كانت دائمًا تجمع أولادها تحت كنف التّسامُح والمحبّة، ميداليّة العمر التي تمنّت أن تحصل عليها... هي أن ترى حفيدها الدكتور سليم حنّا، نجل الأستاذ جمال، تاركًا دار العزوبيّة، ليدخُل مع عروسِهِ قصر الزّواج العامر بالتّفاهُم، لتفرش تحت قدميهما ورود الرّغد والسّعد. جمعت الأنسباء في محيط كرمها الواسع، فكُنّا ننعم بوجودها الممتع حولنا في المناسبات العديدة...
أحببنا تبادل المزاح معها، لأنها امرأة عشقَت المسرّات وعاشت أجواءً هانئة ومرِحة في باحة حياتها السّعيدة مع العَم أبي جمال، الذي أعتبره شخصًا فريدًا ببحبوحته المعيشيّة، وحبّه لأجواء الانبساط، اكتَشَفَ من خلال المشاوير كنز المعنويّات، الذي لا يُثمّن بثمن، وهو ما زال يحتفظ به إلى الآن، وقدّم هذا الكنز لرفيقة دربه الرّاحلة أم جمال.
جئت لزيارة دار عمّي برفقة زوجتي، لأطمئنّ على عمّي أبي جمال، دخلت البيت فوجدته جالسًا في مكانه التقليدي، متربّعًا على عرش عزّته، راضيًا بحُكم الرّب، ولكن صدى صوتها ما زال يحوم في رحاب البيت، فتخيّلتها جالسة أمامي على الكنبة بهيبتها، ومنديل وقارها يزيّن هامتها، وهنا استحضَرَت مخيّلتي جوقة الذّكريات، التي لن يستطيع الزّمن أن يخفيها خلف ستار النّسيان، وغدت معالم للذّكرى. الرّاحلة أم جمال التي سارت على دروب الصّلاة والدّعاء والتسبيح الدّائم لمجد الرّب، تناولت من السَّيِّد المسيح قربان الحياة الأبديّة بهدوء ملائكي.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com